[ALIGN=CENTER]الأثر الفني بين الفنان والمتلقي
كتب الفنان عبد المنعم الحسني مقال عن الأثر الفني بين الفنان والمتلقي حيث قال
(كل صورة عظيمة ترينا شيئاً نبصره بالعين مع شيء ندركه بالبصيرة،فهي تجمع بين البصر والبصيرة )
((الكسندر اليوت))
عندما نتحدث عن الفنون البصر يه لا نملك إلا أن نجدها وسطاً بين إبداع الفنان وتذوق المتلقي .
ذلك انه إذا سلمنا أن وجود المبدع حتمية أساسية لوجود الفن ، فانه كذلك لا يمكن لأي عمل فنـي أن يترك اثر بدون وجود متلقين يحكمون على جوده هذا العمل الفني ، وإلا لما بقيت الأعمال الفنية الخالدة عبر الأجيال المتعاقبة .إلا أن الفنان رغم انه لسان عصرة ، فهو سابق عليــه في كثير من الحالات ، فهو دائماً من يصنع الجديد و المختلف . الكثير من المعروضات القديمة في بدايتها كانت مستهجنة من المتلقي ولم تلق استحساناً وإعجابا إلا في مرحله متقدمة من عمر هذه الأعمال الفنية .
يحاول هذا المقال أن يسلط الضوء على الأثر الفني الذي يتركه العمل الفني .أو بمعنى آخر أين يقف العمل الفني بين إبداع الفنان وتذوق المتلقي ؟ ومن يحكم الآخر وعلى ماذا يحتكم الاثنان؟!
مصطلح العمل الفني
قبل أن نتطرق إلى الأثر الفني بين المبدع والمتلقي علينا بداية توضيح بعض المفاهيم المتعلقة بالفن والعمل الفني .
فكثيرة هي التعاريف التي أطلقت على الفن ومعظمها مستمدة من القواميـس الإنجليزية والأمريكية (1). ويأتي هذا التنوع نظراً لموسوعية الكلمة وارتباطها بفروع علمية مختلفة كالفلسفة وعلم النفس والجماليات بل وحتى التاريخ . فالفن مرتبط بالأنشطة الإنسانية المختلفـة وقد قامت كل الحضارات البشرية بلا استثناء على اختلافها وتعددها وتنوع مراحلها بإنتاج أشياء لها وقع خاص على نفوس أصحابها . والسؤال الأبدي الذي يتكرر دائماً هو لماذا قامت كل هذه الحضارات بإنتاج هذه الأشياء التي أعدت أعمالا فنية راقية فيما بعد كعجائب الدنيا السبع؟ هل فقط لأغراض نفعيه بحتة وما يتضمنها من استعراض للقوة وفرض السيطرة ومحاولة البقاء وتحدي الموت بالخلود ، هذه الفكرة المجنونة التي سيطرت (ولا تزال) على كثير من الفنانين والمبدعين . أم أن هناك دافعاً نفسياً آخر لهذا الإبداع عبر مراحل التاريخ المختلفة في التعبير عما يعتمل في داخله من خلجات نفسية ومكنونات عميقة . تؤكد ا لدراسات النفسية الحديثة في أن كلا منا يحمل في طيّاته العميقة بذرة فنية . فالإنسان موهوب بالفطرة ، ولكل منا موهبته الخاصة ، في الشعر، في الرسم ، في الموسيقى ، في الطبخ ، في النجارة ، في الحدادة ، وفي كل أنشطتنا الإنسانية فالفن محبوس في أعماقنا . فإذا لقيت هذه البذرة التوجيه السليم نمت وترعرعت. فالفارق إذن بين الفنان وأي شخص آخر هو أن الأول يطور استعداداته الذهنية والعاطفية والمهارات اليدوية لإنتاج شيء كامن في ذواتنا(2) .
(العمل الفني بين الشكل والمضمون )
تتركز الاختلافات ـ حسب نوبلر (1987) ـ في تعريف الفن إلى محورين أساسيين .
حيث يرى أصحاب المحورالأول أن العمل الفني هو (( وسيله للتعبير ومحاولة لايصال الافكار والخلجات النفسية ))(3).
أكد على هذا الاتجاه الكاتب الروسي الشهير تولستوي في كتابه ما هو الفن (1896). ويشدد أنصار هذا الاتجاه على مطابقة الأنموذج للوحة المرسومة أو المصورة أو المنحوتة. فجودة اللوحة هنا تتحدد بمدى مطابقتها للواقع سواء في تصويرنا للأشخاص أو الطبيعة. يقول تولستوي في ذلك : الفن هو أن يثير المرء في نفسه شعوراً سبق أن جربه إذ يثيره في نفسه ، يعمد إلى نقل هذا الشعور بواسطة الحركات أو الخطوط أو الألوان أو الأصوات أو الأشكال المعبر عنها بالكلمات . بحيث يصبح جزاء من تجربة الآخرين ، وهذا هو فعل الفن (4) .
بينما يركز المحور الثاني على أن الفن هو تصميم شكلا ني يسميه رائد هذا الاتجاه وهو الإنجليزي كلا يف بل
(1913) الشكل الدال (significant form) لذا فقد جاء ثورة على الفن التقليدي التعليمي ، يقول كلا يف بل في ذلك : إن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقاً لقوانين معينة مجهولة وغامضة ، تحرك مشاعرنا فعلاً بطريقة معينة وان مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا . هذه التجمعات والتنظيمات هي ما أطلقت عليه على سبيل التيسير اسم ( الشكل الدال ) (significant form) (5) .
إذن أنصار الاتجاه الأول تركزون على الجانب التعبيري التواصلي ؛ بينما يؤكد أنصار الجانب الثاني على الجانب التشكيلي للعمل الفني لكن هذا ليس معناه ـ كما يرى البعض ـ أن النظريتين متناقضتين بالضرورة.
ذلك أن لكل هدفه. فالاثنان يتفقان على أن صورة (الجيوكندا) (ابتسامة المونوليزا) لدافـنـشي عمل فني عظيم
لكن سر عظمته بالنسبة لأصحاب الاتجاه الأول تأتى من خلال قدرة الفنان على إيصال ونقل المشاعر إلى المشاهد كما جربها الفنان عبر إتقانه لدقة تفاصيل الأنموذج(وجه المرأة).بينما يرى أنصار الاتجاه الثاني أن سر عظمة اللوحة تكمن في قدرة الفنان على تجميع الشكل وتنظيمه وفقا لقوانين معينة بحيث تحرك مشاعرنا تجاهها(6) (انظر شكل :1) . يرى متذوق الفن انه من الضروري أن يشتمل العمل الفني العظيم على العناصر الشكلانية الدالة والتعبيرية التوصيلية في نفس الوقت . فالأشكال تنعش ذاكرتنا المليئة بالأشكال المشابهة كالدوائر والمثلثات والمربعات وغيرها ، هذه الأشكال لها رموز تعبيرية توصيلية أقوى من مجرد المحاكاة الشكلية التقليدية للعناصر والأشكال كما هي في الواقع وان تكن غير مباشرة في بعض الأحيان . (7) (انظرشكل:2)
(الفنان بين القصدية والتقنية)
إذا قد يكون العمل الفني وسيلة لإيصال الأفكار أو مجرد تنظيمات شكلا نية لكن الأهم أن يكون الاثنان معاً. ويقف المبدع هنا ليحدد ماذا يريد من عمله الفني ؛ و ما هو الأثر الذي يريد أن يتركه في المتلقي ؟ من هنا كان لابد أن يختار أدواته بناءً على هدفه أو مقصده الفني وليس العكس . معنى ذلك أن يحدد الفكرة أولا ومن ثم يفكر بالتقنية المناسبة لتنفيذ الفكرة . ابسط الأمثلة هنا يمكن أن نطلقها على لوحات ومنحوتات بيكاسو . حيث تعددت أساليب هذا الفنان من الواقعية الجديدة إلى المستقبلية والتكعيبية والتجريدية أو السريالية وغيرها . بل انه أحيانا يمزج بين مدارس فنية مختلفة في لوحة واحدة لإنتاج تجربة جديدة وخلق إيقاع مغاير . انظر إلى الوجوه في لوحة (الجورنيكا) الشهيرة وما تحمله من قساوة وألم وتعاسة بتكعيبات مختلفة لتبين فظاعة الحرب وقسوتها . ولاحظ دقة الخطوط وانسيابها في تصويره للفتاة ذات القلادة (انظر شكل :3). قس على ذلك عددا كبيراً من الفنانين مثل سلفادور دالي وتجاربه وماندريان وكاندنسكي ومان ري. إذن القصد سابق للتقنية وليس العكس . بنا على ما سبق يحاول ناثان نوبلر أن يقدم تعريفاً شاملاً للفن بأنه: (نتاج إنساني يملك شكلاً أو نظاماً معيناً، ويقوم بإيصال التجربة الإنسانية ... ويتأثر بالتحكم الحاذق في المواد المستخدمة في بنائه من اجل إبراز الأفكار الشكلية والمعبرة التي يود الفنان أن يوصلها إلى الآخرين (8).
(أين الجمال في العمل الفني )
نرى أن التعريف السابق لنوبلر يخلو من كلمة الجمال والتي دائماً ما تقرن بالعمل الفني لدى الكثيرين.
ذلك أن العديد منا يرى أن العمل الفني لابد أن يكون جميلاً . لكن بعض الأعمال التي يشاهدونها والتي أقر متذوقو الفن والنقاد بعظمتها ليست جميلة بنظرهم ؛ فهي تبدو قبيحة أو تشعرهم بالخوف أو الانزعاج أو حتى الغثيان . فهل معنى ذلك أن هذه العمال لا تعد أعمالا فنية ؟ يرى نوبلر أن السؤال الذي يجب أن يطرح هو ما المقصود بكلمات مثل قبيح أو جميل؟ (انظر شكل :4) . لو جئنا لمعنى الجمال نجد أن هناك مفهومين أساسيين لهذه الكلمة .
الأول يرى أن الجمال يكمن في استجابتنا الذاتية بفعل إثارة خارجي . بمعنى أن الإحساس بالجمال موجود في
ذواتنا ، لكن تأثرنا بشيء ما جعلنا نشعر بالجمال . فهذا الجمال ليس موجوداً في الشيء وإنما يكمن فينا .
أما المفهوم الآخر فيقول أن الجمال موجود في الشيء ( خارج ذواتنا ) أو كما يسميها نوبلر التجربة نفسها . وعندما تلتقي التجربة الذاتية بالشيء هي التي تثير فينا الحس بالجمال . يؤكد على هذا المفهوم الكسندر اليوت بقوله: فالرائعة ( العمل الفني ) يجب أن تؤخذ كاملة إلى أعماق الوعي ويعاد خلقها هناك من جديد. فهي تسطع في حجرات القلب المظلمة .
إن المعرفة المجردة قد تلتقط من أي مكان ، أما الفهم فلا يأتي إلا بالتجربة ويفترض بالرائعة أن تكون تجربة . وما لم يجربها المرء فإنه لن يفهمها (9) .
يؤكد الكثير من علماء النفس على المفهوم الثاني ألا شمل ؛ فالجمالية في العمل الفني لا تأتي من ذواتنا
فقط لأن ذلك يلغي دور المبدع الذي صنع اللوحة بشكل معين وتكوين وتركيب وأدوات معينة ليستثير بها بصر
المشاهد وبصيرته.
لنرجع إلى معاني كلمات مثل جميل وقبيح وهل يمكن أن تطلق على العمل الفني ؟ نجد أن هذه الكلمات إنما تستقي مدلولاتها من الصور الراسخة في أذهاننا ونظم جمالية سابقة ارتبطت في شاشات عقولنا بمقاييس جمالية سابقة . هذه المقاييس الجمالية تختلف من شخص لآخر وتتشكل عبر تراكمات وخبرات وتجارب يمر بها الإنسان .
أما ما هو جديد فانه يربك هذه النظم الجمالية ونادراً ما يضمها تحت المقاييس السابقة . لذا فان المتلقي حين يشاهد العمل الفني وفي ذهنه النظم الجمالية المتوارثة فانه يفرض على نفسه قيداً أو حاجزاً يسببه له رؤيته المتوارثة عن الجمال ، وبالتالي فان قراءته للعمل الفني تصبح ناقصة ، بدون وعي منه (10) .
إذن لاحظنا هنا أن الجمال أو القبح كلمات ليست مرتبطة بالفن إلا بقدر ما وهو شخصي جداً، فما هو جميل بالنسبة لي قد لا يعد كذلك بالنسبة لشخص آخر . ومن هنا نرى أن من الضروري للفنان المبدع ألا يتأثر بما توارثه عن أفكار الجمال أو ما يعرفه جمهوره عن الجمال ، لأنه بذلك يفرض على نفسه قيداً يأسره عن الانطلاق في كل ما هو جديد ومذهل ومؤلم أو مزعج أحيانا (11) . يحاول الفنان المبدع أن يصنع تجربة عن طريق خبرته الذاتية وفهمه ووعيه لمعطيات المكان والزمان ومن ثم الاستخدام الواعي للأدوات الفنية لتتم في النهاية
استثارة المشاهد بالعمل الفني . في ظل ذلك وكلما كان الفنان واعياً لقراراته واضحاً ومحدداً لأهدافه وأفكاره وبعيداً عن التأثر بمغريات الفن الأبدية والمتمثلة بالمال والسلطة والمجد والشهرة والتباهي (12) . انتج فأبدع . هذا الإبداع قد يوصله إلى مكانة راقية في التاريخ الإنساني وقد لا يصل أبدا ؛ لكنه في كل الأحوال يشعر مع نهاية كل لوحة بفرح طفولي يغمره . هذا الفرح هو الاستجابة الذاتية للعمل الفني . أما إذا كانت معروضاته إرضاء للآخرين أو استجابة لطلبات المتنفذين دون وعي أو إفراغ روحي من الفنان على العمل فإن النتائج عادة ما تكون وخيمة والعمل لا يعد كونه عرضاً هزيلاً مصطنعاً.
لكن هل معنى ذلك ألا نعبأ بالمتلقي ونرمي كل ما يقوله دون التفاته؟ قلنا من البداية أن الفنان بدون متلقي يكون غير معترف به . والفنان كالأطفال يفرح بما أنجز ويحب أن يشاركه الآخرون . فالفطرة الإنسـانية(الطفولية ) تحتم عليه عرض أفكاره على الناس لسماع آرائهم سلباً كانت أم إيجاباً . ولكن السؤال هنا هو من المتلقي الذي نستمع إليه ونحتكم لرأيه؟
للموضوع بقية
[/ALIGN]
كتب الفنان عبد المنعم الحسني مقال عن الأثر الفني بين الفنان والمتلقي حيث قال
(كل صورة عظيمة ترينا شيئاً نبصره بالعين مع شيء ندركه بالبصيرة،فهي تجمع بين البصر والبصيرة )
((الكسندر اليوت))
عندما نتحدث عن الفنون البصر يه لا نملك إلا أن نجدها وسطاً بين إبداع الفنان وتذوق المتلقي .
ذلك انه إذا سلمنا أن وجود المبدع حتمية أساسية لوجود الفن ، فانه كذلك لا يمكن لأي عمل فنـي أن يترك اثر بدون وجود متلقين يحكمون على جوده هذا العمل الفني ، وإلا لما بقيت الأعمال الفنية الخالدة عبر الأجيال المتعاقبة .إلا أن الفنان رغم انه لسان عصرة ، فهو سابق عليــه في كثير من الحالات ، فهو دائماً من يصنع الجديد و المختلف . الكثير من المعروضات القديمة في بدايتها كانت مستهجنة من المتلقي ولم تلق استحساناً وإعجابا إلا في مرحله متقدمة من عمر هذه الأعمال الفنية .
يحاول هذا المقال أن يسلط الضوء على الأثر الفني الذي يتركه العمل الفني .أو بمعنى آخر أين يقف العمل الفني بين إبداع الفنان وتذوق المتلقي ؟ ومن يحكم الآخر وعلى ماذا يحتكم الاثنان؟!
مصطلح العمل الفني
قبل أن نتطرق إلى الأثر الفني بين المبدع والمتلقي علينا بداية توضيح بعض المفاهيم المتعلقة بالفن والعمل الفني .
فكثيرة هي التعاريف التي أطلقت على الفن ومعظمها مستمدة من القواميـس الإنجليزية والأمريكية (1). ويأتي هذا التنوع نظراً لموسوعية الكلمة وارتباطها بفروع علمية مختلفة كالفلسفة وعلم النفس والجماليات بل وحتى التاريخ . فالفن مرتبط بالأنشطة الإنسانية المختلفـة وقد قامت كل الحضارات البشرية بلا استثناء على اختلافها وتعددها وتنوع مراحلها بإنتاج أشياء لها وقع خاص على نفوس أصحابها . والسؤال الأبدي الذي يتكرر دائماً هو لماذا قامت كل هذه الحضارات بإنتاج هذه الأشياء التي أعدت أعمالا فنية راقية فيما بعد كعجائب الدنيا السبع؟ هل فقط لأغراض نفعيه بحتة وما يتضمنها من استعراض للقوة وفرض السيطرة ومحاولة البقاء وتحدي الموت بالخلود ، هذه الفكرة المجنونة التي سيطرت (ولا تزال) على كثير من الفنانين والمبدعين . أم أن هناك دافعاً نفسياً آخر لهذا الإبداع عبر مراحل التاريخ المختلفة في التعبير عما يعتمل في داخله من خلجات نفسية ومكنونات عميقة . تؤكد ا لدراسات النفسية الحديثة في أن كلا منا يحمل في طيّاته العميقة بذرة فنية . فالإنسان موهوب بالفطرة ، ولكل منا موهبته الخاصة ، في الشعر، في الرسم ، في الموسيقى ، في الطبخ ، في النجارة ، في الحدادة ، وفي كل أنشطتنا الإنسانية فالفن محبوس في أعماقنا . فإذا لقيت هذه البذرة التوجيه السليم نمت وترعرعت. فالفارق إذن بين الفنان وأي شخص آخر هو أن الأول يطور استعداداته الذهنية والعاطفية والمهارات اليدوية لإنتاج شيء كامن في ذواتنا(2) .
(العمل الفني بين الشكل والمضمون )
تتركز الاختلافات ـ حسب نوبلر (1987) ـ في تعريف الفن إلى محورين أساسيين .
حيث يرى أصحاب المحورالأول أن العمل الفني هو (( وسيله للتعبير ومحاولة لايصال الافكار والخلجات النفسية ))(3).
أكد على هذا الاتجاه الكاتب الروسي الشهير تولستوي في كتابه ما هو الفن (1896). ويشدد أنصار هذا الاتجاه على مطابقة الأنموذج للوحة المرسومة أو المصورة أو المنحوتة. فجودة اللوحة هنا تتحدد بمدى مطابقتها للواقع سواء في تصويرنا للأشخاص أو الطبيعة. يقول تولستوي في ذلك : الفن هو أن يثير المرء في نفسه شعوراً سبق أن جربه إذ يثيره في نفسه ، يعمد إلى نقل هذا الشعور بواسطة الحركات أو الخطوط أو الألوان أو الأصوات أو الأشكال المعبر عنها بالكلمات . بحيث يصبح جزاء من تجربة الآخرين ، وهذا هو فعل الفن (4) .
بينما يركز المحور الثاني على أن الفن هو تصميم شكلا ني يسميه رائد هذا الاتجاه وهو الإنجليزي كلا يف بل
(1913) الشكل الدال (significant form) لذا فقد جاء ثورة على الفن التقليدي التعليمي ، يقول كلا يف بل في ذلك : إن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقاً لقوانين معينة مجهولة وغامضة ، تحرك مشاعرنا فعلاً بطريقة معينة وان مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا . هذه التجمعات والتنظيمات هي ما أطلقت عليه على سبيل التيسير اسم ( الشكل الدال ) (significant form) (5) .
إذن أنصار الاتجاه الأول تركزون على الجانب التعبيري التواصلي ؛ بينما يؤكد أنصار الجانب الثاني على الجانب التشكيلي للعمل الفني لكن هذا ليس معناه ـ كما يرى البعض ـ أن النظريتين متناقضتين بالضرورة.
ذلك أن لكل هدفه. فالاثنان يتفقان على أن صورة (الجيوكندا) (ابتسامة المونوليزا) لدافـنـشي عمل فني عظيم
لكن سر عظمته بالنسبة لأصحاب الاتجاه الأول تأتى من خلال قدرة الفنان على إيصال ونقل المشاعر إلى المشاهد كما جربها الفنان عبر إتقانه لدقة تفاصيل الأنموذج(وجه المرأة).بينما يرى أنصار الاتجاه الثاني أن سر عظمة اللوحة تكمن في قدرة الفنان على تجميع الشكل وتنظيمه وفقا لقوانين معينة بحيث تحرك مشاعرنا تجاهها(6) (انظر شكل :1) . يرى متذوق الفن انه من الضروري أن يشتمل العمل الفني العظيم على العناصر الشكلانية الدالة والتعبيرية التوصيلية في نفس الوقت . فالأشكال تنعش ذاكرتنا المليئة بالأشكال المشابهة كالدوائر والمثلثات والمربعات وغيرها ، هذه الأشكال لها رموز تعبيرية توصيلية أقوى من مجرد المحاكاة الشكلية التقليدية للعناصر والأشكال كما هي في الواقع وان تكن غير مباشرة في بعض الأحيان . (7) (انظرشكل:2)
(الفنان بين القصدية والتقنية)
إذا قد يكون العمل الفني وسيلة لإيصال الأفكار أو مجرد تنظيمات شكلا نية لكن الأهم أن يكون الاثنان معاً. ويقف المبدع هنا ليحدد ماذا يريد من عمله الفني ؛ و ما هو الأثر الذي يريد أن يتركه في المتلقي ؟ من هنا كان لابد أن يختار أدواته بناءً على هدفه أو مقصده الفني وليس العكس . معنى ذلك أن يحدد الفكرة أولا ومن ثم يفكر بالتقنية المناسبة لتنفيذ الفكرة . ابسط الأمثلة هنا يمكن أن نطلقها على لوحات ومنحوتات بيكاسو . حيث تعددت أساليب هذا الفنان من الواقعية الجديدة إلى المستقبلية والتكعيبية والتجريدية أو السريالية وغيرها . بل انه أحيانا يمزج بين مدارس فنية مختلفة في لوحة واحدة لإنتاج تجربة جديدة وخلق إيقاع مغاير . انظر إلى الوجوه في لوحة (الجورنيكا) الشهيرة وما تحمله من قساوة وألم وتعاسة بتكعيبات مختلفة لتبين فظاعة الحرب وقسوتها . ولاحظ دقة الخطوط وانسيابها في تصويره للفتاة ذات القلادة (انظر شكل :3). قس على ذلك عددا كبيراً من الفنانين مثل سلفادور دالي وتجاربه وماندريان وكاندنسكي ومان ري. إذن القصد سابق للتقنية وليس العكس . بنا على ما سبق يحاول ناثان نوبلر أن يقدم تعريفاً شاملاً للفن بأنه: (نتاج إنساني يملك شكلاً أو نظاماً معيناً، ويقوم بإيصال التجربة الإنسانية ... ويتأثر بالتحكم الحاذق في المواد المستخدمة في بنائه من اجل إبراز الأفكار الشكلية والمعبرة التي يود الفنان أن يوصلها إلى الآخرين (8).
(أين الجمال في العمل الفني )
نرى أن التعريف السابق لنوبلر يخلو من كلمة الجمال والتي دائماً ما تقرن بالعمل الفني لدى الكثيرين.
ذلك أن العديد منا يرى أن العمل الفني لابد أن يكون جميلاً . لكن بعض الأعمال التي يشاهدونها والتي أقر متذوقو الفن والنقاد بعظمتها ليست جميلة بنظرهم ؛ فهي تبدو قبيحة أو تشعرهم بالخوف أو الانزعاج أو حتى الغثيان . فهل معنى ذلك أن هذه العمال لا تعد أعمالا فنية ؟ يرى نوبلر أن السؤال الذي يجب أن يطرح هو ما المقصود بكلمات مثل قبيح أو جميل؟ (انظر شكل :4) . لو جئنا لمعنى الجمال نجد أن هناك مفهومين أساسيين لهذه الكلمة .
الأول يرى أن الجمال يكمن في استجابتنا الذاتية بفعل إثارة خارجي . بمعنى أن الإحساس بالجمال موجود في
ذواتنا ، لكن تأثرنا بشيء ما جعلنا نشعر بالجمال . فهذا الجمال ليس موجوداً في الشيء وإنما يكمن فينا .
أما المفهوم الآخر فيقول أن الجمال موجود في الشيء ( خارج ذواتنا ) أو كما يسميها نوبلر التجربة نفسها . وعندما تلتقي التجربة الذاتية بالشيء هي التي تثير فينا الحس بالجمال . يؤكد على هذا المفهوم الكسندر اليوت بقوله: فالرائعة ( العمل الفني ) يجب أن تؤخذ كاملة إلى أعماق الوعي ويعاد خلقها هناك من جديد. فهي تسطع في حجرات القلب المظلمة .
إن المعرفة المجردة قد تلتقط من أي مكان ، أما الفهم فلا يأتي إلا بالتجربة ويفترض بالرائعة أن تكون تجربة . وما لم يجربها المرء فإنه لن يفهمها (9) .
يؤكد الكثير من علماء النفس على المفهوم الثاني ألا شمل ؛ فالجمالية في العمل الفني لا تأتي من ذواتنا
فقط لأن ذلك يلغي دور المبدع الذي صنع اللوحة بشكل معين وتكوين وتركيب وأدوات معينة ليستثير بها بصر
المشاهد وبصيرته.
لنرجع إلى معاني كلمات مثل جميل وقبيح وهل يمكن أن تطلق على العمل الفني ؟ نجد أن هذه الكلمات إنما تستقي مدلولاتها من الصور الراسخة في أذهاننا ونظم جمالية سابقة ارتبطت في شاشات عقولنا بمقاييس جمالية سابقة . هذه المقاييس الجمالية تختلف من شخص لآخر وتتشكل عبر تراكمات وخبرات وتجارب يمر بها الإنسان .
أما ما هو جديد فانه يربك هذه النظم الجمالية ونادراً ما يضمها تحت المقاييس السابقة . لذا فان المتلقي حين يشاهد العمل الفني وفي ذهنه النظم الجمالية المتوارثة فانه يفرض على نفسه قيداً أو حاجزاً يسببه له رؤيته المتوارثة عن الجمال ، وبالتالي فان قراءته للعمل الفني تصبح ناقصة ، بدون وعي منه (10) .
إذن لاحظنا هنا أن الجمال أو القبح كلمات ليست مرتبطة بالفن إلا بقدر ما وهو شخصي جداً، فما هو جميل بالنسبة لي قد لا يعد كذلك بالنسبة لشخص آخر . ومن هنا نرى أن من الضروري للفنان المبدع ألا يتأثر بما توارثه عن أفكار الجمال أو ما يعرفه جمهوره عن الجمال ، لأنه بذلك يفرض على نفسه قيداً يأسره عن الانطلاق في كل ما هو جديد ومذهل ومؤلم أو مزعج أحيانا (11) . يحاول الفنان المبدع أن يصنع تجربة عن طريق خبرته الذاتية وفهمه ووعيه لمعطيات المكان والزمان ومن ثم الاستخدام الواعي للأدوات الفنية لتتم في النهاية
استثارة المشاهد بالعمل الفني . في ظل ذلك وكلما كان الفنان واعياً لقراراته واضحاً ومحدداً لأهدافه وأفكاره وبعيداً عن التأثر بمغريات الفن الأبدية والمتمثلة بالمال والسلطة والمجد والشهرة والتباهي (12) . انتج فأبدع . هذا الإبداع قد يوصله إلى مكانة راقية في التاريخ الإنساني وقد لا يصل أبدا ؛ لكنه في كل الأحوال يشعر مع نهاية كل لوحة بفرح طفولي يغمره . هذا الفرح هو الاستجابة الذاتية للعمل الفني . أما إذا كانت معروضاته إرضاء للآخرين أو استجابة لطلبات المتنفذين دون وعي أو إفراغ روحي من الفنان على العمل فإن النتائج عادة ما تكون وخيمة والعمل لا يعد كونه عرضاً هزيلاً مصطنعاً.
لكن هل معنى ذلك ألا نعبأ بالمتلقي ونرمي كل ما يقوله دون التفاته؟ قلنا من البداية أن الفنان بدون متلقي يكون غير معترف به . والفنان كالأطفال يفرح بما أنجز ويحب أن يشاركه الآخرون . فالفطرة الإنسـانية(الطفولية ) تحتم عليه عرض أفكاره على الناس لسماع آرائهم سلباً كانت أم إيجاباً . ولكن السؤال هنا هو من المتلقي الذي نستمع إليه ونحتكم لرأيه؟
للموضوع بقية
[/ALIGN]
تعليق