بسم الله الرحمن الرحيم
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) سورة المائده .
صدق الله العظيم
( تفسير الاية لبن كثير )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْر، عن عَدِيّ بن حاتم، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا يا رسول الله، قد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) قال سعيد [بن جبير] يعني: الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: [بن حيان] [ في قوله: ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) ] فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات.
رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وَهْبٍ: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس. فقال: ليس هو من الطيبات.
وقوله تعالى: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) أي: أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك: علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) وهن الكلاب المعلمة والبازي، وكل طير يعلم للصيد والجوارح: يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.
رواه ابن أبى حاتم، ثم قال: وروي عن خَيْثَمَة، وطاوس، ومجاهد، ومكحول، ويحيى بن أبي كثير، نحو ذلك. وروي عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من الجوارح. وروي عن علي بن الحسين مثله. ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله، وقرأ قول الله [عز وجل] ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) قال: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك.
قلت: والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق. وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واختاره ابن جرير، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد، حدثنا عيسي بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: \”ما أمسك عليك فَكُلْ\”.
< 3-33 >
واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \”يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ\” فقلت: ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال: \”الكلب الأسود شيطان\” وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: \”ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا منها كل أسود بَهِيم\”.
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن: جوارح، من الجرح، وهو: الكسب. كما تقول العرب: فلان جَرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. ويقولون: فلان لا جارح له، أي: لا كاسب له، وقال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [ الأنعام : 60 ] أي: ما كسبتم من خير وشر.
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت، فأنزل الله: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \”إذا أرسل الرجل كلبه وسَمَّى، فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل \”.
وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زيد بن الحباب بإسناده، عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنا لك يا رسول الله. قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق، عن أبَان بن صالح، به. وقال: صحيح ولم يخرجاه.
< 3-34 >
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرَمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب، حتى بلغ العَوالي فدخل عاصم بن عَدِيٍّ، وسعد بن خَيْثَمةَ، وعُوَيْم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) [الآية]
ورواه الحاكم من طريق سِمَاك، عن عكرمة وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية: إنه في قتل الكلاب.
وقوله تعالى: ( مُكَلِّبِينَ ) يحتمل أن يكون حالا من الضمير في ( عَلَّمْتُمْ ) فيكون حالا من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو ( الْجَوَارِحِ ) أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد، وذلك أن تقتنصه [الجوارح] بمخالبها أو أظفارها فيستدل بذلك -والحالة هذه-على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء؛ ولهذا قال: ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ) وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه؛ ولهذا قال تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) فمتى كان الجارحة معلما وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد، وإن قتله بالإجماع.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله. فقال: \”إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك\”. قلت: وإن قتلن؟ قال: \”وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره\”. قلت له: فإني أرمي بالمِعْرَاض الصيد فأصيب؟ فقال: \”إذا رميت بالمعراض فَخَزق فكله، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ، فلا تأكله\”. وفي لفظ لهما: \”إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاته\”. وفي رواية لهما: \”فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه.\” فهذا دليل للجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا.
ذكر الآثار بذلك:
قال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا وَكِيع، عن شُعْبَة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان الفارسي: كل وإن أكل ثلثيه -يعني الصيد-إذا أكل منه الكلب. وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة، وعمر بن عامر، عن قتادة. وكذا رواه محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان.
ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ والقاسم؛ أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم الدؤلي؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة -يعني: [إلا] بضعة.
ورواه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن بكير بن الأشَجِّ، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: كل وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المُثَنَّى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن عامر، عن أبي هريرة قال: لو أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المُعْتَمِر قال: سمعت عُبَيد الله وحدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر-عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.
وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد، عن نافع.
فهذه الآثار ثابتة عن سلمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وابن عمر. وهو محكي عن علي، وابن عباس. واختلف فيه عن عطاء، والحسن البصري. وهو قول الزهري، وربيعة، ومالك. وإليه ذهب الشافعي في القديم، وأومأ إليه في الجديد.
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا، فقال ابن جرير: حدثنا عمران بن بَكَّار الكُلاعِيّ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني، حدثنا محمد بن دينار -هو الطاحي-عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة، عن سعيد بن المسيَّب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \”إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه، وقد أكل منه، فليأكل ما بقي \”.
ثم قال ابن جرير: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان، < 3-36 > والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع.
وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا حبيب المعلم، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا -يقال له: أبو ثعلبة-قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبة، فأفتني في صيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: \”إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك\”. فقال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: \”نعم\”. قال: وإن أكل منه؟ قال: \”نعم، وإن أكل منه\”. قال: يا رسول الله، أفتني في قوسي. فقال: \”كُلْ ما ردت عليك قوسك\” قال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: \”وإن تغيب عنك ما لم يصل، أو تجد فيه أثر غير سهمك\”. قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: \”اغسلها وكل فيها\”. .
هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود، من طريق بُسْر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \”إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك\”
وهذان إسنادان جيدان، وقد روى الثوري، عن سِماك بن حَرْب، عن عَدِيٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \”ما كان من كلب ضار أمسك عليك، فكل\”. قلت: وإن أكل؟ قال: \”نعم\”.
حفظكم الله
كتبه / عبدالله بن شايع الزهيري