[align=center]
شاعر عجمان الذي زاره اليتم والحب مبكراً
وقفات في حياة راشد الخضر
الإبداع وليد المعاناة وكما قيل “الحاجة أم الاختراع” ولا أعتقد بوجود إبداع من دون معاناة، فالغوص في أعماق الذات كثيراً ما يكون دافعاً لظهور الفكرة المميزة المختلفة عن المألوف و عندما يُسأل الإنسان عن ماهية المعاناة فإنه يتردد في الإجابة عن هذا السؤال لأنه لا يعلم تفسيراً واحداً لها يتفق عليه الجميع، فهي تحمل تفسيرات و معاني كثيرة مثل :- الألم - الحزن - التعب - المرض - البحث المتواصل - الحرمان - الضياع..... إلخ بيد أن المشكلة تكمن في توافق وظهور أكثر من عنصر من هذه العناصر أو غيرها في حياة إنسان معين. بحيث تسيطر على أسلوبه وفلسفته في الحياة، وهو شأن الشاعر راشد الخضر ابن الامارات الذي يخوض هذا المقال في جانب من سيرته الذاتية وشعره.
هو راشد بن سالم بن عبد الرحمن بن جبران السويدي شاعر من إمارة عجمان في دولة الإمارات العربية المتحدة تحدته الظروف وعانده الزمان ولد سنة 1905 ولما أصبح في الثامنة من عمره توفي والده، وبعد سنوات أخرى توفيت والدته، وكان له شقيق يدعى عبدالرحمن توفي هو بدوره في سن الثامنة عشرة وكان شاعرنا يصغر أخاه بسنتين.. وسمي ب “الخضر” لسمرةٍ خفيفة في لون بشرته.
كوته الحياة بنيرانها ورسمت خطوطاً واضحة على صفحات قلبه حتى إنه لا ينظر إلى الحياة إلا بنظرة الألم، لقد فقد كل ما لديه، اللهم إلا الإحساس بضرورة المتابعة وعدم التوقف. تلك هي الحياة حل وترحال فرح وحزن ميلاد وموت. والكثير من الناس تفاجئهم الأفراح تباعاً فلا يكاد ينفك من فرحة حتى تأتيه فرحة أخرى والعكس وارد في أحوال كثيرة.
لقد اتجه الخضر إلى البديل الذي ظن أنه سيبقى معه ويضمد الجراح التي خلفها الزمن فانساق بقلبه المتعب وبعواطفه المكسورة إلى “علياء” تلك الفتاة الصغيرة التي فتحت له أبواب الأمل، فرسم خيالات في فضاءات الوجود، وأشغل نفسه بالتفكير فيها لأنه لا يعرف سواها من البشر ولا يعرف كذلك إلا طرق ذلك الباب..
في صبيحة يوم جاء يطرق الباب منتظراً إكسير حياته، مبتسماً فرحاً ينتظر من علياء فتح الباب وقد خطط طوال الليل لكلام كثير سيقوله لها وليخبرها عن مغامراته التي قام بها منذ اللحظة التي تركها فيها في اليوم السابق. فجأة يفتح الباب وإذ بوالدتها تقول له علياء لن تذهب بعد اليوم إلى “المطوع” لأنها أصبحت كبيرة وقد خطبت. لم يكن راشد يعي فعلاً هذا الكلام - لصغر سنه - ولكنه كان يعرف شيئاً واحداً فقط هو أنه لن يرى علياء بعد الآن إنها حقاً مصيبة أخرى جاء بها الزمان، لقد حجب عنه ضوء القنديل الذي كان يستنير به إنه قدره الذي كتب عليه ولا مفر منه، لقد خطبت الفتاة التي كان يرى فيها ما كان ينقصه ويحتاج إليه، إنها ذاهبة إلى شخصٍ آخر لم يكن في الحسبان، تخيل الشاعر هذه الفتاة بأنها الكل المتكامل، فهو يرى فيها أمه التي رحلت إلى الخلود، ويرى فيها حبيبته المدللة وثالثة يرى فيها صورة الصديق المخلص الوفي، تصورها ببراءة الطفولة ونظر إليها بعين العاطفة وها هي الآن تستعد للرحيل فقال محدثاً نفسه بهذه الأبيات التي خرجت وللمرة الأولى مع زفرات التأوه والحزن:
[poet font="Simplified Arabic,4,firebrick,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
“عليا” العفو همّج الجتال = “عليا” عليتي واستعليت
واللي صنع صمّان ليبال = ما بي عزا لكني أبليت
[/poet]
تشابكت الأمور في حياته واختلط الحابل بالنابل فما كان منه إلا أن ينادي فتاة أحلامه باسمها معتذراً منها وكأنه أخطأ خطأ فادحاً، ملقيا اللوم على نفسه في ما حدث، فقد شبه وجودها في حياته كالهم الجميل الذي يتلذذ بحمله في قلبه ولكن بهذا الخبر أصبح ذلك الهم وكأنه سمٌ قاتل يتغلغل في كيانه. ليس بجديد أن ترحل هذه كما رحل السابقون وليس بجديد عليه مصارعة الألم.
يكرر الشاعر نداء “عليا” يناديها لكي يخبرها بأنها أصبحت كبيرة وكأنه لم ينتبه إليها في السابق، ظناً منه أنها لن تفارقه أبداً وستظل صغيرة وسيبقى صغيراً. ويكمل شارحاً الحالة النفسية السيئة التي ألمت به بعد سماعه الخبر ولكنه يصر على تحمل هذه المصيبة ويقول لن أتقبل هذا الخبر وكأنني أتقبل العزاء في عزيز لدي ولكن سأتحمل الألم وأصارعه وأتغلب عليه، ويكمل الخضر طريقه إلى “المطوع” لكي يتعلم دروسًا أخرى في مدرسة من الصعب عليه تحمل رؤية المكان الذي كانت تجلس فيه “علياء”.
إنها حقاً مدرسة تعلم فيها الخضر أكثر من غيره ونال نصيباً أكبر من الدروس وبذلك تخرج بهذه الأبيات القوية والتي تكبره بكثير:
[poet font="Simplified Arabic,4,firebrick,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
م البن أبا يا لخل فنيال = يشفي ارتشافه علّة الميت
يا مرحبًا ونّة على البال = أهلاً وسهلاً قلت ونيت
عليا العفو همّج الجتال = عليا عليتي واستعليت
واللي صنع صمّان ليبال = مابي عزا لكني أبليت
[/poet]
في واقع الأمر الشاعر ابن بيئته، وبالنظر إلى البيئة المحيطة بشاعرنا راشد الخضر نجد أن والده كان شاعراً وأبناء عمومته شعراء والوسط الثقافي الذي ترعرع فيه يرتكز أساساً على ثقافة الشعر والشعراء، فكانت إمارة عجمان والشارقة تشتهران بكثرة الشعراء ومجالس الشعر حتى ان البعض يذهب في القول إلى أنه لا يخلو بيت من شاعر والدليل واضح في المراجع التاريخية لهاتين الإمارتين.
وإذا كانت الأبيات السابقة هي البداية التي انطلق منها الخضر في ميدان الشعر فلا شك في أنها بداية تحمل في طياتها الكثير من الرموز والدلالات. ولكنني أتساءل عن نوعية الإسلوب الذي اتبعه الشاعر هل هو أسلوب والده أم اخذه عن أحد أبناء عمومته الذين كانوا يقرضون الشعر أم هو أسلوب ابتكره الشاعر لنفسه ليميزه عن غيره؟
شرح الأبيات الأولى
بالنظر إلى الكلمات التي استخدمها الشاعر في قصيدته الأولى نجد أنها وليدة ثقافة غير عادية بالنسبة إلى سنّه. كذلك لم يتعد الصغار قديماً احتساء القهوة والتلذذ بشربها ولكن شاعرنا يقول “م البن أبا يالخل فنيال” يطلب الشاعر من خله فنجان قهوة “يشفي ارتشافه علّة الميت” يعتقد الشاعر بأن ارتشاف هذا الفنجان من هذا الخليل سيشفيه من الموت، وفي ذلك تصوير على أن أقل القليل من المحبوب بإمكانه فعل السحر على محبوبه، وهذه مبالغة لم تأت من فراغ هل هي اقتباس من شاعر آخر أم هي نبوءة شاعر؟
سؤال آخر، لماذا اختار هذا التشبيه من دون غيره ليعبر به عن حالته النفسية من جراء سماعه هذا الخبر المحزن ؟وإذا كانت الفتاة في سن الحادية عشرة من العمر فكم كان عمر شاعرنا آنذاك هل يكبرها بسنة أو سنتين؟ ولا أقول أكثر، فالمجتمع في ذلك الوقت كان يضع قيودا على مثل هذه المسائل، ولا يسمح باستمرار العلاقة بين الولد والبنت لأكثر من هذه السن، وكما نعرف جميعا أن هذه المرحلة من العمر تبدأ فيها تغيرات فسيولوجية عند الجنسين تؤذن ببداية مرحلة خطيرة تأخذ منحى آخر في أساليب الفهم والإدراك لما هو مختلف تماما عن مرحلة الطفولة وبراءتها ويطلق عليها مرحلة المراهقة وهذه المرحلة من عمر الإنسان لها سيئاتها وحسناتها.
نستطيع القول ان الشاعر راشد الخضر بدأ بنظم الشعر وهو في سن الثانية عشرة من عمره على أقرب تقدير.
يرحب الخضر في البيت الثاني من القصيدة الأولى “يا مرحباً ونّة على البال” بقدوم الحزن الذي بدوره سيؤرقه “بالونين” اي “الأنين” ويصور ذلك “الونين” وكأنه خطر على باله فهو يستعد له لأنه يعرفه وقد زاره كثيراً في أيامه السابقة، يكمل الشاعر شطر البيت فيقول “أهلاً وسهلاً قلت ونّيت” يهلل ويرحب شاعرنا بضيفه الثقيل على مضض ولكن هذا هو قدره الذي لا مفر منه.
ثقافة الخضر
استمد الخضر ثقافته من مدرسة الحياة فقد تعلم القرآن الكريم وعلومه في الكتاتيب، “المطوع” وكما هو واضح من أشعاره فهو إنسان لديه قدرة لا بأس بها من الحفظ والفهم، هذه الخاصية ساعدته كثيراً على تخطي الصعاب التي مرت به، فقد شغل نفسه في أمور كسب الرزق وملازمة ابن عمه ناصر بن جبران الذي كان يمتهن صناعة تطريز البشوت “العباءات” فتعلم هذه الصنعة منه ونتيجة للمجالس الأدبية في إمارة عجمان وبخاصة مجالس الشعر والأدب فقد شكلت له مدرسة أخرى يرتادها ليستمع إلى من لهم باع في هذه الفنون فيتعلم منهم ما جهله.
ولم يقف الحال عند هذا الحد بل عمد شاعرنا إلى التنقل والترحال من مكان إلى آخر فذهب إلى سلطنة عمان ومملكة البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة قطر ودولة الكويت ثم ذهب إلى الجمهورية اليمنية وإلى سوقطرة وإلى الهند، وقد أحب الخضر التنقل في تلك البلدان ليتعلم من ثقافات الشعوب ما يثري به مخزونه الفكري من تجارب وحضارة تلك الشعوب ويضيف إليها من معطيات بيئته المحلية نكهة خاصة تميزه عن الآخرين وهو فعلا تميز في عصره.
حياته
عاش راشد الخضر حياته عازباً ولم يرغب في الارتباط بزوج له ما أثار عندي سؤال محير هو:
“هل كان الخضر سيتزوج من فتاته علياء لو ساعدته الظروف وهيأت له ذلك ؟”، في حين أن أغلب قصائده تدور موضوعاتها حول قصص العشق والغرام، إلا أنه آثر حياة العزوبية وربما كان ذلك بدافع الخوف من تكرار المآسي التي خبرها منذ طفولته.
وكانت تكفيه التجارب السابقة مع الناس الذين ودعوه ورحلوا عندما كان في أمس الحاجة إليهم.
فيما يذهب آخرون إلى أن الخضر لم يرد الارتباط لسبب أنه كان يعشق الجمال ويفتتن به وفضل أن يكون حراً طليقاً كالطير ينتقل من شجرة إلى أخرى يترنم ويتغزل بجمال الزهور والنسمات.
ويدلل أصحاب هذا الرأي على قولهم هذا بالأبيات التالية للشاعر:
[poet font="Simplified Arabic,4,firebrick,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
دنّقْ ودنّقْ قلبي وياه = فز وقعد قلبي محلّه
[/poet]
وحكاية هذا البيت أنه في أحد الأيام كان الخضر ماراً بمنطقة من المناطق ودعاه أحد معارفه ليحل ضيفاً عنده وبينما هو جالس في المجلس وإذا بفتاة تدخل عليه تحمل من صفات الجمال الشيء الكثير، جاءته بالضيافة فأعجب بها الشاعر وأنشد قصيدة يتغزل بجمالها كانت بدايتها البيت السابق.
وفي قصيدة أخرى يقول:
[poet font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أنا بين شبكين أبقى = أشبك العمل أم أنت ناصبة شبكا
حميتك يا شبك الشوارع قادر = فمن يحمني من شبك جفنٍ له هتكا
[/poet]
البيتان السابقان من قصيدة للشاعر راشد الخضر نظمها بينما كان يعمل حارساً لمستودع مسيّج وبه معدات تابعة لاحدى الشركات فمرت من خلف ( الشبك ) السياج فتاة جميلة أعجب بها الخضر وتعلق قلبه بها فنظم هذه القصيدة.
يتبع
[/align]
شاعر عجمان الذي زاره اليتم والحب مبكراً
وقفات في حياة راشد الخضر
الإبداع وليد المعاناة وكما قيل “الحاجة أم الاختراع” ولا أعتقد بوجود إبداع من دون معاناة، فالغوص في أعماق الذات كثيراً ما يكون دافعاً لظهور الفكرة المميزة المختلفة عن المألوف و عندما يُسأل الإنسان عن ماهية المعاناة فإنه يتردد في الإجابة عن هذا السؤال لأنه لا يعلم تفسيراً واحداً لها يتفق عليه الجميع، فهي تحمل تفسيرات و معاني كثيرة مثل :- الألم - الحزن - التعب - المرض - البحث المتواصل - الحرمان - الضياع..... إلخ بيد أن المشكلة تكمن في توافق وظهور أكثر من عنصر من هذه العناصر أو غيرها في حياة إنسان معين. بحيث تسيطر على أسلوبه وفلسفته في الحياة، وهو شأن الشاعر راشد الخضر ابن الامارات الذي يخوض هذا المقال في جانب من سيرته الذاتية وشعره.
هو راشد بن سالم بن عبد الرحمن بن جبران السويدي شاعر من إمارة عجمان في دولة الإمارات العربية المتحدة تحدته الظروف وعانده الزمان ولد سنة 1905 ولما أصبح في الثامنة من عمره توفي والده، وبعد سنوات أخرى توفيت والدته، وكان له شقيق يدعى عبدالرحمن توفي هو بدوره في سن الثامنة عشرة وكان شاعرنا يصغر أخاه بسنتين.. وسمي ب “الخضر” لسمرةٍ خفيفة في لون بشرته.
كوته الحياة بنيرانها ورسمت خطوطاً واضحة على صفحات قلبه حتى إنه لا ينظر إلى الحياة إلا بنظرة الألم، لقد فقد كل ما لديه، اللهم إلا الإحساس بضرورة المتابعة وعدم التوقف. تلك هي الحياة حل وترحال فرح وحزن ميلاد وموت. والكثير من الناس تفاجئهم الأفراح تباعاً فلا يكاد ينفك من فرحة حتى تأتيه فرحة أخرى والعكس وارد في أحوال كثيرة.
لقد اتجه الخضر إلى البديل الذي ظن أنه سيبقى معه ويضمد الجراح التي خلفها الزمن فانساق بقلبه المتعب وبعواطفه المكسورة إلى “علياء” تلك الفتاة الصغيرة التي فتحت له أبواب الأمل، فرسم خيالات في فضاءات الوجود، وأشغل نفسه بالتفكير فيها لأنه لا يعرف سواها من البشر ولا يعرف كذلك إلا طرق ذلك الباب..
في صبيحة يوم جاء يطرق الباب منتظراً إكسير حياته، مبتسماً فرحاً ينتظر من علياء فتح الباب وقد خطط طوال الليل لكلام كثير سيقوله لها وليخبرها عن مغامراته التي قام بها منذ اللحظة التي تركها فيها في اليوم السابق. فجأة يفتح الباب وإذ بوالدتها تقول له علياء لن تذهب بعد اليوم إلى “المطوع” لأنها أصبحت كبيرة وقد خطبت. لم يكن راشد يعي فعلاً هذا الكلام - لصغر سنه - ولكنه كان يعرف شيئاً واحداً فقط هو أنه لن يرى علياء بعد الآن إنها حقاً مصيبة أخرى جاء بها الزمان، لقد حجب عنه ضوء القنديل الذي كان يستنير به إنه قدره الذي كتب عليه ولا مفر منه، لقد خطبت الفتاة التي كان يرى فيها ما كان ينقصه ويحتاج إليه، إنها ذاهبة إلى شخصٍ آخر لم يكن في الحسبان، تخيل الشاعر هذه الفتاة بأنها الكل المتكامل، فهو يرى فيها أمه التي رحلت إلى الخلود، ويرى فيها حبيبته المدللة وثالثة يرى فيها صورة الصديق المخلص الوفي، تصورها ببراءة الطفولة ونظر إليها بعين العاطفة وها هي الآن تستعد للرحيل فقال محدثاً نفسه بهذه الأبيات التي خرجت وللمرة الأولى مع زفرات التأوه والحزن:
[poet font="Simplified Arabic,4,firebrick,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
“عليا” العفو همّج الجتال = “عليا” عليتي واستعليت
واللي صنع صمّان ليبال = ما بي عزا لكني أبليت
[/poet]
تشابكت الأمور في حياته واختلط الحابل بالنابل فما كان منه إلا أن ينادي فتاة أحلامه باسمها معتذراً منها وكأنه أخطأ خطأ فادحاً، ملقيا اللوم على نفسه في ما حدث، فقد شبه وجودها في حياته كالهم الجميل الذي يتلذذ بحمله في قلبه ولكن بهذا الخبر أصبح ذلك الهم وكأنه سمٌ قاتل يتغلغل في كيانه. ليس بجديد أن ترحل هذه كما رحل السابقون وليس بجديد عليه مصارعة الألم.
يكرر الشاعر نداء “عليا” يناديها لكي يخبرها بأنها أصبحت كبيرة وكأنه لم ينتبه إليها في السابق، ظناً منه أنها لن تفارقه أبداً وستظل صغيرة وسيبقى صغيراً. ويكمل شارحاً الحالة النفسية السيئة التي ألمت به بعد سماعه الخبر ولكنه يصر على تحمل هذه المصيبة ويقول لن أتقبل هذا الخبر وكأنني أتقبل العزاء في عزيز لدي ولكن سأتحمل الألم وأصارعه وأتغلب عليه، ويكمل الخضر طريقه إلى “المطوع” لكي يتعلم دروسًا أخرى في مدرسة من الصعب عليه تحمل رؤية المكان الذي كانت تجلس فيه “علياء”.
إنها حقاً مدرسة تعلم فيها الخضر أكثر من غيره ونال نصيباً أكبر من الدروس وبذلك تخرج بهذه الأبيات القوية والتي تكبره بكثير:
[poet font="Simplified Arabic,4,firebrick,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
م البن أبا يا لخل فنيال = يشفي ارتشافه علّة الميت
يا مرحبًا ونّة على البال = أهلاً وسهلاً قلت ونيت
عليا العفو همّج الجتال = عليا عليتي واستعليت
واللي صنع صمّان ليبال = مابي عزا لكني أبليت
[/poet]
في واقع الأمر الشاعر ابن بيئته، وبالنظر إلى البيئة المحيطة بشاعرنا راشد الخضر نجد أن والده كان شاعراً وأبناء عمومته شعراء والوسط الثقافي الذي ترعرع فيه يرتكز أساساً على ثقافة الشعر والشعراء، فكانت إمارة عجمان والشارقة تشتهران بكثرة الشعراء ومجالس الشعر حتى ان البعض يذهب في القول إلى أنه لا يخلو بيت من شاعر والدليل واضح في المراجع التاريخية لهاتين الإمارتين.
وإذا كانت الأبيات السابقة هي البداية التي انطلق منها الخضر في ميدان الشعر فلا شك في أنها بداية تحمل في طياتها الكثير من الرموز والدلالات. ولكنني أتساءل عن نوعية الإسلوب الذي اتبعه الشاعر هل هو أسلوب والده أم اخذه عن أحد أبناء عمومته الذين كانوا يقرضون الشعر أم هو أسلوب ابتكره الشاعر لنفسه ليميزه عن غيره؟
شرح الأبيات الأولى
بالنظر إلى الكلمات التي استخدمها الشاعر في قصيدته الأولى نجد أنها وليدة ثقافة غير عادية بالنسبة إلى سنّه. كذلك لم يتعد الصغار قديماً احتساء القهوة والتلذذ بشربها ولكن شاعرنا يقول “م البن أبا يالخل فنيال” يطلب الشاعر من خله فنجان قهوة “يشفي ارتشافه علّة الميت” يعتقد الشاعر بأن ارتشاف هذا الفنجان من هذا الخليل سيشفيه من الموت، وفي ذلك تصوير على أن أقل القليل من المحبوب بإمكانه فعل السحر على محبوبه، وهذه مبالغة لم تأت من فراغ هل هي اقتباس من شاعر آخر أم هي نبوءة شاعر؟
سؤال آخر، لماذا اختار هذا التشبيه من دون غيره ليعبر به عن حالته النفسية من جراء سماعه هذا الخبر المحزن ؟وإذا كانت الفتاة في سن الحادية عشرة من العمر فكم كان عمر شاعرنا آنذاك هل يكبرها بسنة أو سنتين؟ ولا أقول أكثر، فالمجتمع في ذلك الوقت كان يضع قيودا على مثل هذه المسائل، ولا يسمح باستمرار العلاقة بين الولد والبنت لأكثر من هذه السن، وكما نعرف جميعا أن هذه المرحلة من العمر تبدأ فيها تغيرات فسيولوجية عند الجنسين تؤذن ببداية مرحلة خطيرة تأخذ منحى آخر في أساليب الفهم والإدراك لما هو مختلف تماما عن مرحلة الطفولة وبراءتها ويطلق عليها مرحلة المراهقة وهذه المرحلة من عمر الإنسان لها سيئاتها وحسناتها.
نستطيع القول ان الشاعر راشد الخضر بدأ بنظم الشعر وهو في سن الثانية عشرة من عمره على أقرب تقدير.
يرحب الخضر في البيت الثاني من القصيدة الأولى “يا مرحباً ونّة على البال” بقدوم الحزن الذي بدوره سيؤرقه “بالونين” اي “الأنين” ويصور ذلك “الونين” وكأنه خطر على باله فهو يستعد له لأنه يعرفه وقد زاره كثيراً في أيامه السابقة، يكمل الشاعر شطر البيت فيقول “أهلاً وسهلاً قلت ونّيت” يهلل ويرحب شاعرنا بضيفه الثقيل على مضض ولكن هذا هو قدره الذي لا مفر منه.
ثقافة الخضر
استمد الخضر ثقافته من مدرسة الحياة فقد تعلم القرآن الكريم وعلومه في الكتاتيب، “المطوع” وكما هو واضح من أشعاره فهو إنسان لديه قدرة لا بأس بها من الحفظ والفهم، هذه الخاصية ساعدته كثيراً على تخطي الصعاب التي مرت به، فقد شغل نفسه في أمور كسب الرزق وملازمة ابن عمه ناصر بن جبران الذي كان يمتهن صناعة تطريز البشوت “العباءات” فتعلم هذه الصنعة منه ونتيجة للمجالس الأدبية في إمارة عجمان وبخاصة مجالس الشعر والأدب فقد شكلت له مدرسة أخرى يرتادها ليستمع إلى من لهم باع في هذه الفنون فيتعلم منهم ما جهله.
ولم يقف الحال عند هذا الحد بل عمد شاعرنا إلى التنقل والترحال من مكان إلى آخر فذهب إلى سلطنة عمان ومملكة البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة قطر ودولة الكويت ثم ذهب إلى الجمهورية اليمنية وإلى سوقطرة وإلى الهند، وقد أحب الخضر التنقل في تلك البلدان ليتعلم من ثقافات الشعوب ما يثري به مخزونه الفكري من تجارب وحضارة تلك الشعوب ويضيف إليها من معطيات بيئته المحلية نكهة خاصة تميزه عن الآخرين وهو فعلا تميز في عصره.
حياته
عاش راشد الخضر حياته عازباً ولم يرغب في الارتباط بزوج له ما أثار عندي سؤال محير هو:
“هل كان الخضر سيتزوج من فتاته علياء لو ساعدته الظروف وهيأت له ذلك ؟”، في حين أن أغلب قصائده تدور موضوعاتها حول قصص العشق والغرام، إلا أنه آثر حياة العزوبية وربما كان ذلك بدافع الخوف من تكرار المآسي التي خبرها منذ طفولته.
وكانت تكفيه التجارب السابقة مع الناس الذين ودعوه ورحلوا عندما كان في أمس الحاجة إليهم.
فيما يذهب آخرون إلى أن الخضر لم يرد الارتباط لسبب أنه كان يعشق الجمال ويفتتن به وفضل أن يكون حراً طليقاً كالطير ينتقل من شجرة إلى أخرى يترنم ويتغزل بجمال الزهور والنسمات.
ويدلل أصحاب هذا الرأي على قولهم هذا بالأبيات التالية للشاعر:
[poet font="Simplified Arabic,4,firebrick,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
دنّقْ ودنّقْ قلبي وياه = فز وقعد قلبي محلّه
[/poet]
وحكاية هذا البيت أنه في أحد الأيام كان الخضر ماراً بمنطقة من المناطق ودعاه أحد معارفه ليحل ضيفاً عنده وبينما هو جالس في المجلس وإذا بفتاة تدخل عليه تحمل من صفات الجمال الشيء الكثير، جاءته بالضيافة فأعجب بها الشاعر وأنشد قصيدة يتغزل بجمالها كانت بدايتها البيت السابق.
وفي قصيدة أخرى يقول:
[poet font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أنا بين شبكين أبقى = أشبك العمل أم أنت ناصبة شبكا
حميتك يا شبك الشوارع قادر = فمن يحمني من شبك جفنٍ له هتكا
[/poet]
البيتان السابقان من قصيدة للشاعر راشد الخضر نظمها بينما كان يعمل حارساً لمستودع مسيّج وبه معدات تابعة لاحدى الشركات فمرت من خلف ( الشبك ) السياج فتاة جميلة أعجب بها الخضر وتعلق قلبه بها فنظم هذه القصيدة.
يتبع
![وجه مبتسم](https://www.alnadawi.com/vb/core/images/smilies/smile.gif)
[/align]
تعليق