عندما يكون الحديث عن "السرقة" فإن ما يتبادر إلى الذهن عملية سلب ونهب "الماديات" والتي يحدّ من إنتشارها ويقضي على الإجتهاد بها حكم الشرع الصريح بها "بقطع اليد" جزاءا للفعل ونكالا من الله
وشاهد هذا العمل الذي يُعدّ إجرامي بالإجماع .. شهادة العين على "مادة" بيد سارق
أما حين يكون الحديث عن "سرقة الإبداع" فإننا نرمي إلى سرقت تلك المزايا التي فضّل الله بها بعضنا على بعض , وتلك الكنوز التي تستوطن البعض منّا وتغيب عن البعض الآخر , والتي تــُعدّ بقيمتها أسمى من الكنوز التي نستوطنها ونستحوذ عليها من الذهب والفضّة والأموال قاطبة
ولعلّ خفاء شاهد هذا العمل وتواريه هو ما يزيد من أنتشاره ويوسّع محيط دائرته , حيث أن الأمر متروك لجانب "الفضيلة" و "التورع" التي قد تغيب عن الكثيرين من مدّعي الإبداع بالعموم
وتخصيصنا لجانب "سرقة الإبداع" يعكس لنا تصوّرا عن السرقة الأعظم خطرا , والتي ظلّت الهاجس المليء بالرعب لجميع مالكي الإبداع , لإختفاء صريح العقاب بها , ونزوله بإطار الإجتهاد مما بعث الخوف في قلوب المبدعين وبالمقابل بعث التمادي والتمرد بقلوب الآخرين ..
ومن هنا تولّد العزم بطرق باب هذا الجانب , وتسليط الضوء على صورة من صُوره الأكثر وضوحا , لندرك مدى خطورة هذا الأمر , وكيلا نلوم أولئك المبدعين بمخاوفهم , ولكي ندرك جمال رأي الدكتور : "حسين المناصرة" عندما دعى بقطع "يدا" سارق الإبداع مضاعفة لعقوبة سارق المال وعكسا لزيادة خطورة هذه السرقة مقابل تلك .. حيث يقول : "إذا كان سار ق الذهب جزاؤه قطع اليد , فمن الأولى أن تقطع "يدا" سارق اللغة في حال ثبوت السرقة 100% , لأن الأول مجرم غير واعٍ في كثير من الأحيان , في حين مارس الآخر إجرامه بوعي كامل مهما أدّعى الغباء والتجاهل ... "
وعند ذكرنا لمصطلح (سرقة الإبداع) فإننا نرمي إلى السرقات الأدبية والفكرية بالعموم , ونقصد بذلك سلب ونهب هذه الجوانب من عقول أصحابها وإدّعاءها من نتاج الفكر الآخر بدون وجه حق .. وقد يكره منّا أولئك "اللصوص" هذه الإطلالة وهذا النور , لأنه ليس هناك من يُبغض النور كاللص , ولكن حسبنا بذلك صدق الدعوى وقيام الحجة .. وبعد هذا فإن كان السارق يكذب فإن السرقة لا تكذب كما قيل ..
وسنخص بالذكر في هذا المقام الأمر الأكثر وضوحا والحالة الأدق رؤية .. وهي "السرقات الشعرية" .. وأختيارنا للشعر ليس لأن الشعر وحده ما يخضع لعمليات السطو , بل لأن الشعر أكثر إنتشارا بالآفاق , وأكثر رسوخا عند الحفظه مما يسهل دراسته وجمعه وربطه ..
هذا وقد عرّف النقاد "السرقات الأدبية" على أنها : اتفاق الكلامين باللفظ والمعنى معاً , أو بالمعنى دون اللفظ , وقد يزيد المسروق أو ينقص أو يتناوله بعض التحرير والتحوير بتصرف .. على أن السرقة الشعرية داء ذو جذور قديمة , وأفتخر الشعراء منذ القدم بسلامتهم من هذا الداء كما يقول طرفة بن العبد منزّها نفسه من هذا الأمر .. :
ولا أغير على الشعراء أسرقها * عنها غنيت وشر الناس من سرقا
وقد أشار الحريري بمقاماته لهذا الشأن في قوله "واستراق الشعر عند الشعراء أفضع من سرقة البيضاء والصفراء , وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار"
على ألا سلامة ولا برء لجلّ الشعراء من هذا الأمر , فمنذ القدم ألــّف النقاد الكتب والرسالات التي تقيم الشعراء في دوائر الإتهام , ومن أكثر من دُقّق عليهم بهذا الأمر هو شاعر العربية الأول "أبو الطيب المتنبي" والذي وُجد بديوانه أكثر من 70 بيتا قد سُلبت من شعراء آخرين , حيث تناولها بشئ من التحرير الذي لا يلغي وضوحها
وما كان "شعراءنا الشعبيين" بمنأى عن هذا الأمر , حيث سار جلّهم على إثر أجدادهم وتناولوا أبيات سابقيهم ومعاصريهم بشيء من التحرير والتحوير الذي لا يلغي وضوح الصورة , ولا يقيمهم خارج "قفص الإتهام" على أن الكثيرين منهم تواروا خلف شعار "يجوز للشاعر مالا يجوز لغيره" وشعار "التضمين والاقتباس" وشعار " الضرورة الشعرية" ولا يوجد بلوى أعمّ ولا أطمّ من هذه الأخيرة , التي يظن الشاعر أنها تجيز له كل محظور وتبرأه من كل قصور ..
_ وههنا نبتدأ من أبيات للشاعر "ضيدان بن قضعان" إذ يقول :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ولو اتوب من الذنوب اللي جنت لايام ضدي = ما قدرت اتوب عن ذنب يعنّ القلب صوبه
كيف اتوبك يا اجمل ذنوبي واوقف عند حدي = وانت ذنب لا غفره الله ولا لي عنه توبه[/poem]
وبالإطلاع المباشر لهذه الأبيات يتبادر إلى الذهن أبيات قيس بن الملوّح الشهيرة التي يقول فيها ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أتوب إليك يا رحمن مما = عملت فقد تظاهرت الذنوبُ
فإما من هوى ليلى وتركي = محبتها فإني لا أتوبُ
وكيف ..وعندها قلبٌ رهينٌ = أتوب إليك منها أو أُنيبُ[/poem]
والبيتان يحويان إعتراف "بجملة الذنوب" وأستغفار منها .. واستثناء لذنب الحب والإعتراف بعدم التوبه منه , وشرح السبب بجملة إستفهامية تبدأ بــ "كيف" فالمعنى هو المعنى والأدوات هي ما اختلفت بحيث تم تناولها بشيء من التحرير والتحوير التي لا تلغي وضوح المعنى والخلاصة النهائية
وكذلك في بيت آخر لضيدان -أشار إليه البعض سلفا- حيث يقول ..
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
علّم وقل للحاضرين يعلمون الغايبين = ان الأمم أخلاق تبقى ما بقت أخلاقها[/poem]
وهذا المعنى لـ "أحمد شوقي" الذي ذكره ببيته الشهير إذ يقول به ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت = فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا[/poem]
وقد يقول قائل أن هذا من باب الإقتباس أو التضمين , وهذا بلا شك لا مجال له من الصحه حيث الفرق واضح بين "الإقتباس والتضمين" مقابل "السرقة" .. فالتضمين لا يكون بإنكار صاحب الصنع الأقدم ولا يلغي جانبه , ولصحة التضمين نقول كما قال الأخ الفاضل محمد البيضاني أنه يجب على الشاعر الإفصاح عن ذلك قبل أو بعد إقتباسه إما "بالإشارة إلى اسم الشاعر الذي تم التضمين من أبياته" .. "أو بالإشارة إلى البيت المُضمّن بالعموم" .. وهذا أضعف الإيمان .. ومن الأمثلة على التضمين الصائب قول الشريف بركات :
فقلته على بيتٍ قديم ٍ سمعته * وهو مثل ما قال التميمي لصاحبه
إذا الخلَ وراك الصدود فورّه * صدودٍ ولو كانت جزال ٍ مواهبه
وهو بذلك مشيرا لقول ابن عبدالرحيم التميمي .. :
الإقفا جزا الإقفا ولا خير في فتى * يريد هوى من لا يريد هواه
ومن الأمثلة على التضمين بالإشارة إلى البيت المُضمّن قول محمد البيضاني :
صارت عليّه يالرياحي كما قال * الشاعر اللي فجّر الياس همّه
"جاني ولدها يبتسم بين الأطفال * ومن بسمته ذكرت أنا بسمة أمّه"
أما أبيات ضيدان السابقة فليس بها أية إشارة إلى معنى سابق , وتمت صناعة البيت على أنها حدث جديد مُستحدث .. وعلى من زعم كون ذلك تضمينا أن يسأل نفسه .. ماذا لو وقعت أبيات ضيدان على مسمع شخص لم يسمع بأبيات قيس بن الملوّح مثلا .. هل سيعرف أنها ليست من معاني ضيدان .. !؟ وهل سيعي كون هذا المعنى قد أُخذ من معنى شاعر سبقه .. !؟
ويجدر الإشارة إلى وقوع بعض "التضمينات" بموقع ضعيف للغاية ولا يكاد يبين , كقول "فهد عافت" في البيت الذي لامه النقاد كثيرا عليه إذا يقول .. :
أنا "ولد عافت" سلايل كحيلان * على اسم جدّي والأسامي وصايا
والذي سبقه إليه عبيد الرشيد في قوله .. :
أنا "ولد علي" سلايل كحيلان * ربي خلقني للسبايا وداعه
وقد يكون الشاعر قد أشار بقوله "على اسم جدي" لهذا الأمر على أن هذه الإشارة ضعيفة للغاية وتكاد تكون معدومه لمن جَهَل بيت عبيد الرشيد .
على أن "التضمين" بعموم الحال لا يُعدّ سمة جمالية في القصيدة حتى وإن أكتملت صورته وصحّت .. حيث ما قيمة إيراد معنى قديم في مجال الشعر الذي يطالب صانعيه بالتجديد وفتح آفاق حديثه .. وهذا الإستكراه للتضمين قد ذكره الشاعر "عبدالله بن عبار العنزي" وأجاد وصفه عندما قال ..
قلنا كما قال السديري بالأبيات * لو المعاني ما يجوز أنتحاله
لا خاب ظنّك في دوانيك بالذات * ما لك على ذريّة آدم مساله
وهو بذلك يشير إلى بيت "السديري" الذي يقول فيه .. :
لا خاب ظنّك بالرفيق الموالي * مالك مشاريهٍ على باقي الناس
_ ومن النماذج المنتحلة أيضا قول الشاعرة عابرة سبيل .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أنتم تحبوني وأنا أحب ثاني = واللي أحبه باغيٍ ناس ثانين
هذا أبتلى فيني وهذا بلاني = واللي بلا مبلي وباليه مسكين[/poem]
وهذا المعنى لطيف للغاية ولكنه مأخوذ من قول قديم للأعشى في معلقته إذ يقول .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
عُلِّقتها عرضا وعُلِّقت رجلا = غيري وعُلِّق أخرى غيرها الرجلُ
وعلّقته فتاة ما يحاولها = من أهلها ميت يهذي بها وهلُ[/poem]
فالمعنى هو المعنى والإختلاف فقط بالمبنى الذي أقتضاه القول الشعبي ببيت عابرة سبيل
_ ومن الأبيات التي تدعو لتدقيق النظر .. بيت النسيان الشهير لـ "حسن السليطين" والذي يقول فيه .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أنساك لحظه وأذكرك باقي العام = حتى وانا ناسي نسيت وذكرتك[/poem]
وبالمقابل قول الشاعر "طلال حمزة" .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بيني وبينك قلت بحاول أنساك = ونسيت فعلا يا حبيبي لا أحاول[/poem]
فالمعنى واحد والأدوات مختلفة .. فكلا البيتان ينطويان حول نسيان النسيان للبقاء على الذكرى .. على أن أحدهما مُبتدع والآخر محوّر ومكرّر ..
وهنا تظهر سلبيّة هذه التحويرات وضرر هذه التحريرات .. فما نطالب به هو أن يكون الشعر "تجديد" وهذا التجديد لا يقبل التكرار بأي حال من الأحوال .. فلو لجأ الشاعر لخياله لأبدع وصنع وأبهر .. أما إذا لجأ إلى معاني الغير فعلاوة على أن بالأمر خطيّة وإعتداء على ممتلكات الآخرين .. فبها إستخفاف بذوق الجمهور .. حيث ما قيمة قراءة معنى واحدا مكرر على أكثر من بيت .. !
وإذا ما أستمر الشعراء على هذا التحرير فلن نـُنتج ذا قيمة وسنظل ندور في دائرة مغلقة .. ونمتهن التكرير بكل ما نخرجه وههنا لا قيمة تذكر غير زيادة إستخدام أدوات اللغة على معنىً مألوف وغير طرح التجديد المعنوي جانبا وتعطيل أهم ميزات الشعر وهو الخيال المنطلق والمعاني الفوقية الجديدة والمبتكرة.
على أن ما ذُكر هنا ما كان إلا رؤوس أقلام لأمثلة كثيرة الحدوث وسنظل نقول "وما خفي كان أعظم"
وشاهد هذا العمل الذي يُعدّ إجرامي بالإجماع .. شهادة العين على "مادة" بيد سارق
أما حين يكون الحديث عن "سرقة الإبداع" فإننا نرمي إلى سرقت تلك المزايا التي فضّل الله بها بعضنا على بعض , وتلك الكنوز التي تستوطن البعض منّا وتغيب عن البعض الآخر , والتي تــُعدّ بقيمتها أسمى من الكنوز التي نستوطنها ونستحوذ عليها من الذهب والفضّة والأموال قاطبة
ولعلّ خفاء شاهد هذا العمل وتواريه هو ما يزيد من أنتشاره ويوسّع محيط دائرته , حيث أن الأمر متروك لجانب "الفضيلة" و "التورع" التي قد تغيب عن الكثيرين من مدّعي الإبداع بالعموم
وتخصيصنا لجانب "سرقة الإبداع" يعكس لنا تصوّرا عن السرقة الأعظم خطرا , والتي ظلّت الهاجس المليء بالرعب لجميع مالكي الإبداع , لإختفاء صريح العقاب بها , ونزوله بإطار الإجتهاد مما بعث الخوف في قلوب المبدعين وبالمقابل بعث التمادي والتمرد بقلوب الآخرين ..
ومن هنا تولّد العزم بطرق باب هذا الجانب , وتسليط الضوء على صورة من صُوره الأكثر وضوحا , لندرك مدى خطورة هذا الأمر , وكيلا نلوم أولئك المبدعين بمخاوفهم , ولكي ندرك جمال رأي الدكتور : "حسين المناصرة" عندما دعى بقطع "يدا" سارق الإبداع مضاعفة لعقوبة سارق المال وعكسا لزيادة خطورة هذه السرقة مقابل تلك .. حيث يقول : "إذا كان سار ق الذهب جزاؤه قطع اليد , فمن الأولى أن تقطع "يدا" سارق اللغة في حال ثبوت السرقة 100% , لأن الأول مجرم غير واعٍ في كثير من الأحيان , في حين مارس الآخر إجرامه بوعي كامل مهما أدّعى الغباء والتجاهل ... "
وعند ذكرنا لمصطلح (سرقة الإبداع) فإننا نرمي إلى السرقات الأدبية والفكرية بالعموم , ونقصد بذلك سلب ونهب هذه الجوانب من عقول أصحابها وإدّعاءها من نتاج الفكر الآخر بدون وجه حق .. وقد يكره منّا أولئك "اللصوص" هذه الإطلالة وهذا النور , لأنه ليس هناك من يُبغض النور كاللص , ولكن حسبنا بذلك صدق الدعوى وقيام الحجة .. وبعد هذا فإن كان السارق يكذب فإن السرقة لا تكذب كما قيل ..
وسنخص بالذكر في هذا المقام الأمر الأكثر وضوحا والحالة الأدق رؤية .. وهي "السرقات الشعرية" .. وأختيارنا للشعر ليس لأن الشعر وحده ما يخضع لعمليات السطو , بل لأن الشعر أكثر إنتشارا بالآفاق , وأكثر رسوخا عند الحفظه مما يسهل دراسته وجمعه وربطه ..
هذا وقد عرّف النقاد "السرقات الأدبية" على أنها : اتفاق الكلامين باللفظ والمعنى معاً , أو بالمعنى دون اللفظ , وقد يزيد المسروق أو ينقص أو يتناوله بعض التحرير والتحوير بتصرف .. على أن السرقة الشعرية داء ذو جذور قديمة , وأفتخر الشعراء منذ القدم بسلامتهم من هذا الداء كما يقول طرفة بن العبد منزّها نفسه من هذا الأمر .. :
ولا أغير على الشعراء أسرقها * عنها غنيت وشر الناس من سرقا
وقد أشار الحريري بمقاماته لهذا الشأن في قوله "واستراق الشعر عند الشعراء أفضع من سرقة البيضاء والصفراء , وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار"
على ألا سلامة ولا برء لجلّ الشعراء من هذا الأمر , فمنذ القدم ألــّف النقاد الكتب والرسالات التي تقيم الشعراء في دوائر الإتهام , ومن أكثر من دُقّق عليهم بهذا الأمر هو شاعر العربية الأول "أبو الطيب المتنبي" والذي وُجد بديوانه أكثر من 70 بيتا قد سُلبت من شعراء آخرين , حيث تناولها بشئ من التحرير الذي لا يلغي وضوحها
وما كان "شعراءنا الشعبيين" بمنأى عن هذا الأمر , حيث سار جلّهم على إثر أجدادهم وتناولوا أبيات سابقيهم ومعاصريهم بشيء من التحرير والتحوير الذي لا يلغي وضوح الصورة , ولا يقيمهم خارج "قفص الإتهام" على أن الكثيرين منهم تواروا خلف شعار "يجوز للشاعر مالا يجوز لغيره" وشعار "التضمين والاقتباس" وشعار " الضرورة الشعرية" ولا يوجد بلوى أعمّ ولا أطمّ من هذه الأخيرة , التي يظن الشاعر أنها تجيز له كل محظور وتبرأه من كل قصور ..
_ وههنا نبتدأ من أبيات للشاعر "ضيدان بن قضعان" إذ يقول :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ولو اتوب من الذنوب اللي جنت لايام ضدي = ما قدرت اتوب عن ذنب يعنّ القلب صوبه
كيف اتوبك يا اجمل ذنوبي واوقف عند حدي = وانت ذنب لا غفره الله ولا لي عنه توبه[/poem]
وبالإطلاع المباشر لهذه الأبيات يتبادر إلى الذهن أبيات قيس بن الملوّح الشهيرة التي يقول فيها ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أتوب إليك يا رحمن مما = عملت فقد تظاهرت الذنوبُ
فإما من هوى ليلى وتركي = محبتها فإني لا أتوبُ
وكيف ..وعندها قلبٌ رهينٌ = أتوب إليك منها أو أُنيبُ[/poem]
والبيتان يحويان إعتراف "بجملة الذنوب" وأستغفار منها .. واستثناء لذنب الحب والإعتراف بعدم التوبه منه , وشرح السبب بجملة إستفهامية تبدأ بــ "كيف" فالمعنى هو المعنى والأدوات هي ما اختلفت بحيث تم تناولها بشيء من التحرير والتحوير التي لا تلغي وضوح المعنى والخلاصة النهائية
وكذلك في بيت آخر لضيدان -أشار إليه البعض سلفا- حيث يقول ..
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
علّم وقل للحاضرين يعلمون الغايبين = ان الأمم أخلاق تبقى ما بقت أخلاقها[/poem]
وهذا المعنى لـ "أحمد شوقي" الذي ذكره ببيته الشهير إذ يقول به ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت = فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا[/poem]
وقد يقول قائل أن هذا من باب الإقتباس أو التضمين , وهذا بلا شك لا مجال له من الصحه حيث الفرق واضح بين "الإقتباس والتضمين" مقابل "السرقة" .. فالتضمين لا يكون بإنكار صاحب الصنع الأقدم ولا يلغي جانبه , ولصحة التضمين نقول كما قال الأخ الفاضل محمد البيضاني أنه يجب على الشاعر الإفصاح عن ذلك قبل أو بعد إقتباسه إما "بالإشارة إلى اسم الشاعر الذي تم التضمين من أبياته" .. "أو بالإشارة إلى البيت المُضمّن بالعموم" .. وهذا أضعف الإيمان .. ومن الأمثلة على التضمين الصائب قول الشريف بركات :
فقلته على بيتٍ قديم ٍ سمعته * وهو مثل ما قال التميمي لصاحبه
إذا الخلَ وراك الصدود فورّه * صدودٍ ولو كانت جزال ٍ مواهبه
وهو بذلك مشيرا لقول ابن عبدالرحيم التميمي .. :
الإقفا جزا الإقفا ولا خير في فتى * يريد هوى من لا يريد هواه
ومن الأمثلة على التضمين بالإشارة إلى البيت المُضمّن قول محمد البيضاني :
صارت عليّه يالرياحي كما قال * الشاعر اللي فجّر الياس همّه
"جاني ولدها يبتسم بين الأطفال * ومن بسمته ذكرت أنا بسمة أمّه"
أما أبيات ضيدان السابقة فليس بها أية إشارة إلى معنى سابق , وتمت صناعة البيت على أنها حدث جديد مُستحدث .. وعلى من زعم كون ذلك تضمينا أن يسأل نفسه .. ماذا لو وقعت أبيات ضيدان على مسمع شخص لم يسمع بأبيات قيس بن الملوّح مثلا .. هل سيعرف أنها ليست من معاني ضيدان .. !؟ وهل سيعي كون هذا المعنى قد أُخذ من معنى شاعر سبقه .. !؟
ويجدر الإشارة إلى وقوع بعض "التضمينات" بموقع ضعيف للغاية ولا يكاد يبين , كقول "فهد عافت" في البيت الذي لامه النقاد كثيرا عليه إذا يقول .. :
أنا "ولد عافت" سلايل كحيلان * على اسم جدّي والأسامي وصايا
والذي سبقه إليه عبيد الرشيد في قوله .. :
أنا "ولد علي" سلايل كحيلان * ربي خلقني للسبايا وداعه
وقد يكون الشاعر قد أشار بقوله "على اسم جدي" لهذا الأمر على أن هذه الإشارة ضعيفة للغاية وتكاد تكون معدومه لمن جَهَل بيت عبيد الرشيد .
على أن "التضمين" بعموم الحال لا يُعدّ سمة جمالية في القصيدة حتى وإن أكتملت صورته وصحّت .. حيث ما قيمة إيراد معنى قديم في مجال الشعر الذي يطالب صانعيه بالتجديد وفتح آفاق حديثه .. وهذا الإستكراه للتضمين قد ذكره الشاعر "عبدالله بن عبار العنزي" وأجاد وصفه عندما قال ..
قلنا كما قال السديري بالأبيات * لو المعاني ما يجوز أنتحاله
لا خاب ظنّك في دوانيك بالذات * ما لك على ذريّة آدم مساله
وهو بذلك يشير إلى بيت "السديري" الذي يقول فيه .. :
لا خاب ظنّك بالرفيق الموالي * مالك مشاريهٍ على باقي الناس
_ ومن النماذج المنتحلة أيضا قول الشاعرة عابرة سبيل .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أنتم تحبوني وأنا أحب ثاني = واللي أحبه باغيٍ ناس ثانين
هذا أبتلى فيني وهذا بلاني = واللي بلا مبلي وباليه مسكين[/poem]
وهذا المعنى لطيف للغاية ولكنه مأخوذ من قول قديم للأعشى في معلقته إذ يقول .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
عُلِّقتها عرضا وعُلِّقت رجلا = غيري وعُلِّق أخرى غيرها الرجلُ
وعلّقته فتاة ما يحاولها = من أهلها ميت يهذي بها وهلُ[/poem]
فالمعنى هو المعنى والإختلاف فقط بالمبنى الذي أقتضاه القول الشعبي ببيت عابرة سبيل
_ ومن الأبيات التي تدعو لتدقيق النظر .. بيت النسيان الشهير لـ "حسن السليطين" والذي يقول فيه .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أنساك لحظه وأذكرك باقي العام = حتى وانا ناسي نسيت وذكرتك[/poem]
وبالمقابل قول الشاعر "طلال حمزة" .. :
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بيني وبينك قلت بحاول أنساك = ونسيت فعلا يا حبيبي لا أحاول[/poem]
فالمعنى واحد والأدوات مختلفة .. فكلا البيتان ينطويان حول نسيان النسيان للبقاء على الذكرى .. على أن أحدهما مُبتدع والآخر محوّر ومكرّر ..
وهنا تظهر سلبيّة هذه التحويرات وضرر هذه التحريرات .. فما نطالب به هو أن يكون الشعر "تجديد" وهذا التجديد لا يقبل التكرار بأي حال من الأحوال .. فلو لجأ الشاعر لخياله لأبدع وصنع وأبهر .. أما إذا لجأ إلى معاني الغير فعلاوة على أن بالأمر خطيّة وإعتداء على ممتلكات الآخرين .. فبها إستخفاف بذوق الجمهور .. حيث ما قيمة قراءة معنى واحدا مكرر على أكثر من بيت .. !
وإذا ما أستمر الشعراء على هذا التحرير فلن نـُنتج ذا قيمة وسنظل ندور في دائرة مغلقة .. ونمتهن التكرير بكل ما نخرجه وههنا لا قيمة تذكر غير زيادة إستخدام أدوات اللغة على معنىً مألوف وغير طرح التجديد المعنوي جانبا وتعطيل أهم ميزات الشعر وهو الخيال المنطلق والمعاني الفوقية الجديدة والمبتكرة.
على أن ما ذُكر هنا ما كان إلا رؤوس أقلام لأمثلة كثيرة الحدوث وسنظل نقول "وما خفي كان أعظم"
تعليق