عندما تريد أن تمتحن ملحنا في قدرته على التلحين قدم له نصاً للبدر . نصوص بدر بن عبدالمحسن تتمرد على النصوص الغنائية الجاهزة .. تتمرد على اللغة السهلة والمفردة المستهلكة التي يعتمد عليها اغلب شعراء الأغنية .
و لأن البدر يكتب للبدر .. ولأنه يراهن في قصيدته على عمق المفردة .. على الملحن أن يتغلغل الى خبايا النص .. وان يحتوي رموز النص . لينساق له النص في جمل موسيقية تماثل الأجواء الشعرية التي يزخر بها النص .. وتجسيد المعنى في النص وتحويله الى لغة غناء بحاجة الى ملحن يملك شفافية في القراءة العميقة للنص ..
مدخل :
عبادي الجوهر كان بحاجة لأغنية تماثل أغنية ( المرايا ) .. بعد أغنية ( المزهرية) كان لعبادي ان يعيد التجربة في غناء هذا النوع من النصوص .. التي تتميز بـ دراما الخيال ومؤسسة على البعد النفسي . مثل هذه النصوص .. الإمساك بها صعب جدا . فهي تمارس الغواية على المتلقي .. بأنها لا تستلم للقراءة الأولية .. ولا تمنح مفاتيحها لمن لامس ظاهر المعنى .. و الملحن في داخل عبادي الجوهر .. استطاع أن يفك رموز هذا النص .. لم يقدم لنا لحنا سهلاً .. يصادر العمق في النص .. ولم يحاول ان يرتكب جناية التعقيد في صياغة اللحن .. و إنما أجاد في خلق التوازن بين اللغة العميقة واللحن الشفاف .. الذي يطرب الروح .. ويمنح العقل فرصة التداخل مع تلك الشفافية التي تنساب في الأغنية ..
كلنا عشاق لكن … انتي لا
ما انتي معايا …
ولما تجمعنا الأماكن .. تأخذك مني المرايا
كلنا عشاق … بهذا التعميم في صياغة هذه المفردة تأتي البداية .. بداية نحسبها عادية عندما نقول ( كلنا عشاق ) ونصمت .. ولأن البدر لا يرضى بهذا الاعتياد .. ينقلنا الى لحظة ترقب .. وكأنه يهيئ المتلقي الى مفاجأة او صدمة للدخول الى عمق النص .. بعد هذه السهولة المبكرة بقوله ( كلنا عشاق.. لكن )
انتي ..لا .. ما انتي معايا ..
يتحول هذا التقرير الى خطاب مباشر الى الحبيبة .. وينتقل الخطاب الجمعي الى خصوصية الهمس للحبيبة .. خصوصية تحمل العتاب ، اللوم ، التوصيف للبعد النفسي .. لملامح الحسية الحبيبة ..
ما انتي معايا … هنا المدخل للمعاناة التي تقوم عليها تيمة النص .( ما انتي معايا ) توصيف لملامح نفسية وحسية .. قد تعني الشرود ، اللامبالاة .. الهروب ، البرود . انطفاء الوهج .
ولما تجمعنا الاماكن … تأخذك مني المرايا .
هذا الثراء في اللقاءات لم تثمر تلاقيا يشفي الأوجاع .. فالمرايا . قادرة على إفساد هذا التماهي الذي هو طموح العاشق .
أنتي مشغولة بروحك … بداية الإدانة على تهمة النرجسية التي تحملها هذه الحبيبة .. الغارقة في الارتداد لذاتها .. بالانشغال بلعبة المرايا / النرجسية
ما ملك قلبك وروحك ..
لا انا .. ولا سوايا ..
الشاعر هنا يجزم بقدرة هذه النرجسية على حجب الحب عن القلب والروح .. الشاعر عندما استخدم مفردة ( ما ملك ) الامتلاك هو طموح عاشق صوفي يرغب بامتلاك ما لا يُملك .
كلنا عشاق لكن … كل واحد له حكاية
باستعادة هذا المفردة يجدد لنا البدر الهم العام الذي يوحد العشاق .. ولكن يؤكد على خصوصية كل عشق .. فكل عشق يحمل خصوصية لا تشبه الآخر.
عبادي الجوهر صاغ هذا المقطع بشفافية .. برتم حزين يحمل إيقاع العتاب . كان صوته ينتقل ببراعة من الأداء الحزين الى الأكثر حزنا .. ثم يعود الى صوت يصيغ العتاب بطريقة غير مؤذية . كان الهدوء الذي يفتتح به الغناء جذاب ومغري جدا لاكتشاف لعبة المرايا .
أعطى ظهرك … للمرايا .. و شوفي غيرك
اظهري من ليل كحلك .. ومن أساورك .. و حريرك
افتحي .. الشباك مرة :
شوفي الناس والشوارع ..
وش كثر هالغربة مُرة
للي وسط الزحمة ضايع
هاجس الشاعر هو الوصول الى حميمة الروح .. ومعانقة الوضوح ..و لأنه العارف بتفاصيل هذه النرجسية العتيقة .. والواعي بدلالات الأبعاد النفسية لذات الحبيبة .. فهو مرة يتالف معها .. ومرة اخرى يستبد به التعب فـ يثور
عليها .. ويصيغ الوصايا . فاضحا ومعريا هذه الطقوس النرجسية . بإحساس المتأمل يتعامل الشاعر مع هذا المغيب والمسكوت عنه في العلاقة مع الحبيبة . يتربص بهذه النرجسية متوغلاً بحميمية في قراءته التي تحمل الدفء لتذويب هذه الكتلة النرجسية في مصالحة الذات مع الآخر .
أفعال الأمر التي نجدها بكثرة في هذا المقطع دلالة هاجس الدخول الى عمق الذات محاولا التغيير وكبح جماح لعبة المرايا .
اعطي .. اظهري .. شوفي .. افتحي .. لغة الأمر تحرض على نزع الحجاب النرجسي عن ذات الحبيبة .
الوصية الأولى ..
أعطى ظهرك للمرايا .. وشوفي غيرك
هنا خلق لفعل حركي .. ظاهري ولكنه ينفذ الى عمق الذات . بهذا الامر تكون بداية الثورة على المرايا / النرجسية . عندما نغيب الأنانية نرى الآخرين .. عندما نتمرد على نرجسة المرايا نستطيع الإحساس بالآخرين . بهذا تكون الرؤيا اشمل و قادرة على التواصل مع الآخر .
البدر وكعادته في التميز .. اختار هذا المعنى ( شوفي غيرك ) الخطاب ظاهريا هو للآخر بشكل عام .. والغير هي وصية إنسانية مفتوحة للتعايش مع الآخرين في الحياة .. بهذا المعنى اختار البدر ان يكون الوصول إليه عبر الرؤيا المفتوحة على الآخرين بشكل عام .. وعندما تنطلق ذات الحبيبة على الآخر أي كان .. لا بد إنها سوف ترى هذا العاشق .. وسوف تشعر بجمال الارتباط الروحي .. وكأن البدر يقرر حقيقة نفسية واجتماعية .. في ضرورة الانفتاح و الرؤية الشاملة في التعامل مع الآخر . فالنرجسية لا تلحق الضرر به فقط لأنه الحبيب .. ولكن تشمل كل من يتعامل مع هذه الذات .
الوصية الثانية :
اظهري من ليل كحلك .. ومن أساورك وحريرك .
بوقار يدخل الشاعر طقوس هذه الأنثى الأرستقراطية المترفة بنرجسيتها .. ينتخب الشاعر اجمل الملامح الأنثوية التي تتباهى بها سيدة أرستقراطية ( الكحل/ الأساور / الحرير)
لماذا اختار الشاعر مفردة ( اظهري ) وكان بإمكانه اختيار مفردة اخرى تؤدي مهمة فعل الأمر . اظهري رمز لهذا الغرق النرجسي الكثيف الذي يبحر بهذا المركب الى مهاوي الهلاك في التماهي مع المرايا .
لماذا لجأ البدر الى تكثيف السواد .. الليل / الكحل .. الليل دلالة الظلام .. تغييب الرؤية .. تحت جنح الظلام نغرق في الارتداد الى الداخل .. عندما تتساوى ملامح الأشياء ..
الكحل = ظلام .. لكنه ظلام جمالي يزين الرؤيا ..يحجب الحقيقي ويظهر الشكل الجمالي للعين .. الليل الحاجب الأول للذات .. الكحل الحاجب للعين .. بتماسك هذا السواد تغرق الذات النرجسية .. وتنأى عن الرؤية الحقيقية للأشياء. فهذا التكثيف الجمالي في النظرة .. تتبعه الأنثى في احتواء دلالها وغرقها في طقوسها .. دون ملامسة الوضوح فالكحل وهو يمنح البعد الجمالي للعين في الوقت نفسه يصنع حاجبا شفافا للذات النرجسية في رؤية الآخر .
الوصية الثالثة :
افتحي .. الشباك مرة :
شوفي الناس والشوارع ..
وش كثر هالغربة مُرة
للي وسط الزحمة ضايع
هنا الوصية تنطلق الى الحياة ..والحياة تعني الاخر .. ( افتحي ) فعل امر اخر يحضر .. وتأكيد من الشاعر على الانغلاق .. وأن هذا الشباك النرجسي مغلق .. نجده يبدأ بطلب فتح هذا الشباك لكي تصافح الحياة .. هو يهيأ تلك الانثى لمصالحة مع الواقع الغائب عنها .
البدر قال ( الشباك ) ولم يقول الباب أو مفردة اخرى تدل على الانكشاف في رؤية الاخر . الشباك هو الحيز الاصغر .. وكلما ضاقت مساحة الرؤية كلما كانت نظرة العين اكثر تركيزا . لذا نجد البدر استخدم مفردة الشباك وهي الاقرب لتلك الذات المنغلقة على واقعها . أيضا عادة تكون النظرة من الشباك تأتي من الأعلى .. وهو يحافظ على أرستقراطية الأنثى .. ويجعلها تحافظ على أرستقراطيتها لترى الأشياء من علوها المترف . هو لا يريد لها الاستلاب فقط يمنحها دعوة الانطلاق .
البدر لم يكتفي بقوله في المرة السابقة ( افتحي ) بل جاءت مفردة (شوفي) لتؤكد حرص الشاعر على ان تكون النظرة حقيقية تلتحم بالأشياء وتختلط بأوجاع الآخرين .. هو لا يريدها نظرة عابرة بل نظرة تتفاعل مع معطيات المساحة التي يمنحها الشباك في رؤية الحياة .
شوفي الناس والشوارع .. هنا الالتحام بصخب الحياة .. بضجيج الحركة .. الشوارع عادة ما تحفل بهذا الحركة الساخنة .. لذا اختار لها هذا المشهد .
في الشوارع تتجلى نبض الحياة .. ويعلو إيقاع الإحساس .. فتكون الثمرة لهذا المشهد هي الحوارية الحياتية التي تخلقها حركة الناس في الشوارع بمختلف أمزجتهم / إشكالهم / ملامحهم .. وكأنه يريد لها أن ترى كل الأطياف .
وش كثر هالغربة مُرة
للي وسط الزحمة ضايع
في عمق هذا الضجيج يعود البدر الى ذاته … وكأنه أخذها الى ( الكل ) حتى تشعر بحضور (الأنا) .. هنا يقدم البدر ذاته / الغربة … ليسقط هذا التصور على ذات الحبيبة .. الغربة = الشاعر… الزحام = الحبية .. هذه الشحنة التي يبرع فيها البدر لتوليد الحياة في هذا المناخ النرجسي .. تشكل الصراع الذي يقوم عليه النص .. فالشاعر وهو العاجز عن ملامسة الذات في الحبيبة قادر على الفهم والغوص في الأعماق لتلك الأنثى .. الا انه يفشل في تحييد تلك النرجسية . مابين عجز وانتصار .. تأتي تلك الهزائم التي يجنيها الشاعر تخلق لنا هذا النص الذي تغمره البهجة والحزن .. ويوحده هذا الإبداع المنفرد للبدر.
عبادي تفاعل مع هذه الوصايا ..أو أفعال الأمر .. فصاغ اللحن بطريقة تشبه المارشات العسكرية .. والأصح المارشات العاطفية .. وكان يتدرج في هذا الغضب الموسيقي الى شفافية الحزن .. ما بين الهبوط والصعود في اللحن كانت هناك لزمة موسيقية شجية تحافظ على اللحن من السقوط في الخطابية المباشرة التي يمنحها فعل الأمر في هذا المقطع . كان التوصيف الموسيقي ناجحا من عبادي .. وتشكل في صوت عبادي بأداء مدهش .. كان يمنح الكلمة في حنجرته البعد الدلالي الذي تستحقه .. وكانت الخلفية الموسيقية تتآلف مع هذا التكامل الذي صاغه لحنيا عبادي .
ملاحظة .. ابتعدت عن الحديث عن المقامات وعن الحديث في العمق الموسيقي للحن لجهلي بتلك الخصائص . من يملك رؤية موسيقية للأغنية لا يبخل علينا باضافتها هنا .
الــمـــرايــــا
قراءة متذوق فقط
و لأن البدر يكتب للبدر .. ولأنه يراهن في قصيدته على عمق المفردة .. على الملحن أن يتغلغل الى خبايا النص .. وان يحتوي رموز النص . لينساق له النص في جمل موسيقية تماثل الأجواء الشعرية التي يزخر بها النص .. وتجسيد المعنى في النص وتحويله الى لغة غناء بحاجة الى ملحن يملك شفافية في القراءة العميقة للنص ..
مدخل :
عبادي الجوهر كان بحاجة لأغنية تماثل أغنية ( المرايا ) .. بعد أغنية ( المزهرية) كان لعبادي ان يعيد التجربة في غناء هذا النوع من النصوص .. التي تتميز بـ دراما الخيال ومؤسسة على البعد النفسي . مثل هذه النصوص .. الإمساك بها صعب جدا . فهي تمارس الغواية على المتلقي .. بأنها لا تستلم للقراءة الأولية .. ولا تمنح مفاتيحها لمن لامس ظاهر المعنى .. و الملحن في داخل عبادي الجوهر .. استطاع أن يفك رموز هذا النص .. لم يقدم لنا لحنا سهلاً .. يصادر العمق في النص .. ولم يحاول ان يرتكب جناية التعقيد في صياغة اللحن .. و إنما أجاد في خلق التوازن بين اللغة العميقة واللحن الشفاف .. الذي يطرب الروح .. ويمنح العقل فرصة التداخل مع تلك الشفافية التي تنساب في الأغنية ..
كلنا عشاق لكن … انتي لا
ما انتي معايا …
ولما تجمعنا الأماكن .. تأخذك مني المرايا
كلنا عشاق … بهذا التعميم في صياغة هذه المفردة تأتي البداية .. بداية نحسبها عادية عندما نقول ( كلنا عشاق ) ونصمت .. ولأن البدر لا يرضى بهذا الاعتياد .. ينقلنا الى لحظة ترقب .. وكأنه يهيئ المتلقي الى مفاجأة او صدمة للدخول الى عمق النص .. بعد هذه السهولة المبكرة بقوله ( كلنا عشاق.. لكن )
انتي ..لا .. ما انتي معايا ..
يتحول هذا التقرير الى خطاب مباشر الى الحبيبة .. وينتقل الخطاب الجمعي الى خصوصية الهمس للحبيبة .. خصوصية تحمل العتاب ، اللوم ، التوصيف للبعد النفسي .. لملامح الحسية الحبيبة ..
ما انتي معايا … هنا المدخل للمعاناة التي تقوم عليها تيمة النص .( ما انتي معايا ) توصيف لملامح نفسية وحسية .. قد تعني الشرود ، اللامبالاة .. الهروب ، البرود . انطفاء الوهج .
ولما تجمعنا الاماكن … تأخذك مني المرايا .
هذا الثراء في اللقاءات لم تثمر تلاقيا يشفي الأوجاع .. فالمرايا . قادرة على إفساد هذا التماهي الذي هو طموح العاشق .
أنتي مشغولة بروحك … بداية الإدانة على تهمة النرجسية التي تحملها هذه الحبيبة .. الغارقة في الارتداد لذاتها .. بالانشغال بلعبة المرايا / النرجسية
ما ملك قلبك وروحك ..
لا انا .. ولا سوايا ..
الشاعر هنا يجزم بقدرة هذه النرجسية على حجب الحب عن القلب والروح .. الشاعر عندما استخدم مفردة ( ما ملك ) الامتلاك هو طموح عاشق صوفي يرغب بامتلاك ما لا يُملك .
كلنا عشاق لكن … كل واحد له حكاية
باستعادة هذا المفردة يجدد لنا البدر الهم العام الذي يوحد العشاق .. ولكن يؤكد على خصوصية كل عشق .. فكل عشق يحمل خصوصية لا تشبه الآخر.
عبادي الجوهر صاغ هذا المقطع بشفافية .. برتم حزين يحمل إيقاع العتاب . كان صوته ينتقل ببراعة من الأداء الحزين الى الأكثر حزنا .. ثم يعود الى صوت يصيغ العتاب بطريقة غير مؤذية . كان الهدوء الذي يفتتح به الغناء جذاب ومغري جدا لاكتشاف لعبة المرايا .
أعطى ظهرك … للمرايا .. و شوفي غيرك
اظهري من ليل كحلك .. ومن أساورك .. و حريرك
افتحي .. الشباك مرة :
شوفي الناس والشوارع ..
وش كثر هالغربة مُرة
للي وسط الزحمة ضايع
هاجس الشاعر هو الوصول الى حميمة الروح .. ومعانقة الوضوح ..و لأنه العارف بتفاصيل هذه النرجسية العتيقة .. والواعي بدلالات الأبعاد النفسية لذات الحبيبة .. فهو مرة يتالف معها .. ومرة اخرى يستبد به التعب فـ يثور
عليها .. ويصيغ الوصايا . فاضحا ومعريا هذه الطقوس النرجسية . بإحساس المتأمل يتعامل الشاعر مع هذا المغيب والمسكوت عنه في العلاقة مع الحبيبة . يتربص بهذه النرجسية متوغلاً بحميمية في قراءته التي تحمل الدفء لتذويب هذه الكتلة النرجسية في مصالحة الذات مع الآخر .
أفعال الأمر التي نجدها بكثرة في هذا المقطع دلالة هاجس الدخول الى عمق الذات محاولا التغيير وكبح جماح لعبة المرايا .
اعطي .. اظهري .. شوفي .. افتحي .. لغة الأمر تحرض على نزع الحجاب النرجسي عن ذات الحبيبة .
الوصية الأولى ..
أعطى ظهرك للمرايا .. وشوفي غيرك
هنا خلق لفعل حركي .. ظاهري ولكنه ينفذ الى عمق الذات . بهذا الامر تكون بداية الثورة على المرايا / النرجسية . عندما نغيب الأنانية نرى الآخرين .. عندما نتمرد على نرجسة المرايا نستطيع الإحساس بالآخرين . بهذا تكون الرؤيا اشمل و قادرة على التواصل مع الآخر .
البدر وكعادته في التميز .. اختار هذا المعنى ( شوفي غيرك ) الخطاب ظاهريا هو للآخر بشكل عام .. والغير هي وصية إنسانية مفتوحة للتعايش مع الآخرين في الحياة .. بهذا المعنى اختار البدر ان يكون الوصول إليه عبر الرؤيا المفتوحة على الآخرين بشكل عام .. وعندما تنطلق ذات الحبيبة على الآخر أي كان .. لا بد إنها سوف ترى هذا العاشق .. وسوف تشعر بجمال الارتباط الروحي .. وكأن البدر يقرر حقيقة نفسية واجتماعية .. في ضرورة الانفتاح و الرؤية الشاملة في التعامل مع الآخر . فالنرجسية لا تلحق الضرر به فقط لأنه الحبيب .. ولكن تشمل كل من يتعامل مع هذه الذات .
الوصية الثانية :
اظهري من ليل كحلك .. ومن أساورك وحريرك .
بوقار يدخل الشاعر طقوس هذه الأنثى الأرستقراطية المترفة بنرجسيتها .. ينتخب الشاعر اجمل الملامح الأنثوية التي تتباهى بها سيدة أرستقراطية ( الكحل/ الأساور / الحرير)
لماذا اختار الشاعر مفردة ( اظهري ) وكان بإمكانه اختيار مفردة اخرى تؤدي مهمة فعل الأمر . اظهري رمز لهذا الغرق النرجسي الكثيف الذي يبحر بهذا المركب الى مهاوي الهلاك في التماهي مع المرايا .
لماذا لجأ البدر الى تكثيف السواد .. الليل / الكحل .. الليل دلالة الظلام .. تغييب الرؤية .. تحت جنح الظلام نغرق في الارتداد الى الداخل .. عندما تتساوى ملامح الأشياء ..
الكحل = ظلام .. لكنه ظلام جمالي يزين الرؤيا ..يحجب الحقيقي ويظهر الشكل الجمالي للعين .. الليل الحاجب الأول للذات .. الكحل الحاجب للعين .. بتماسك هذا السواد تغرق الذات النرجسية .. وتنأى عن الرؤية الحقيقية للأشياء. فهذا التكثيف الجمالي في النظرة .. تتبعه الأنثى في احتواء دلالها وغرقها في طقوسها .. دون ملامسة الوضوح فالكحل وهو يمنح البعد الجمالي للعين في الوقت نفسه يصنع حاجبا شفافا للذات النرجسية في رؤية الآخر .
الوصية الثالثة :
افتحي .. الشباك مرة :
شوفي الناس والشوارع ..
وش كثر هالغربة مُرة
للي وسط الزحمة ضايع
هنا الوصية تنطلق الى الحياة ..والحياة تعني الاخر .. ( افتحي ) فعل امر اخر يحضر .. وتأكيد من الشاعر على الانغلاق .. وأن هذا الشباك النرجسي مغلق .. نجده يبدأ بطلب فتح هذا الشباك لكي تصافح الحياة .. هو يهيأ تلك الانثى لمصالحة مع الواقع الغائب عنها .
البدر قال ( الشباك ) ولم يقول الباب أو مفردة اخرى تدل على الانكشاف في رؤية الاخر . الشباك هو الحيز الاصغر .. وكلما ضاقت مساحة الرؤية كلما كانت نظرة العين اكثر تركيزا . لذا نجد البدر استخدم مفردة الشباك وهي الاقرب لتلك الذات المنغلقة على واقعها . أيضا عادة تكون النظرة من الشباك تأتي من الأعلى .. وهو يحافظ على أرستقراطية الأنثى .. ويجعلها تحافظ على أرستقراطيتها لترى الأشياء من علوها المترف . هو لا يريد لها الاستلاب فقط يمنحها دعوة الانطلاق .
البدر لم يكتفي بقوله في المرة السابقة ( افتحي ) بل جاءت مفردة (شوفي) لتؤكد حرص الشاعر على ان تكون النظرة حقيقية تلتحم بالأشياء وتختلط بأوجاع الآخرين .. هو لا يريدها نظرة عابرة بل نظرة تتفاعل مع معطيات المساحة التي يمنحها الشباك في رؤية الحياة .
شوفي الناس والشوارع .. هنا الالتحام بصخب الحياة .. بضجيج الحركة .. الشوارع عادة ما تحفل بهذا الحركة الساخنة .. لذا اختار لها هذا المشهد .
في الشوارع تتجلى نبض الحياة .. ويعلو إيقاع الإحساس .. فتكون الثمرة لهذا المشهد هي الحوارية الحياتية التي تخلقها حركة الناس في الشوارع بمختلف أمزجتهم / إشكالهم / ملامحهم .. وكأنه يريد لها أن ترى كل الأطياف .
وش كثر هالغربة مُرة
للي وسط الزحمة ضايع
في عمق هذا الضجيج يعود البدر الى ذاته … وكأنه أخذها الى ( الكل ) حتى تشعر بحضور (الأنا) .. هنا يقدم البدر ذاته / الغربة … ليسقط هذا التصور على ذات الحبيبة .. الغربة = الشاعر… الزحام = الحبية .. هذه الشحنة التي يبرع فيها البدر لتوليد الحياة في هذا المناخ النرجسي .. تشكل الصراع الذي يقوم عليه النص .. فالشاعر وهو العاجز عن ملامسة الذات في الحبيبة قادر على الفهم والغوص في الأعماق لتلك الأنثى .. الا انه يفشل في تحييد تلك النرجسية . مابين عجز وانتصار .. تأتي تلك الهزائم التي يجنيها الشاعر تخلق لنا هذا النص الذي تغمره البهجة والحزن .. ويوحده هذا الإبداع المنفرد للبدر.
عبادي تفاعل مع هذه الوصايا ..أو أفعال الأمر .. فصاغ اللحن بطريقة تشبه المارشات العسكرية .. والأصح المارشات العاطفية .. وكان يتدرج في هذا الغضب الموسيقي الى شفافية الحزن .. ما بين الهبوط والصعود في اللحن كانت هناك لزمة موسيقية شجية تحافظ على اللحن من السقوط في الخطابية المباشرة التي يمنحها فعل الأمر في هذا المقطع . كان التوصيف الموسيقي ناجحا من عبادي .. وتشكل في صوت عبادي بأداء مدهش .. كان يمنح الكلمة في حنجرته البعد الدلالي الذي تستحقه .. وكانت الخلفية الموسيقية تتآلف مع هذا التكامل الذي صاغه لحنيا عبادي .
ملاحظة .. ابتعدت عن الحديث عن المقامات وعن الحديث في العمق الموسيقي للحن لجهلي بتلك الخصائص . من يملك رؤية موسيقية للأغنية لا يبخل علينا باضافتها هنا .
الــمـــرايــــا
قراءة متذوق فقط
تعليق