قال شيخ الإسلام ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية ( 41 ، 42 ) :
ومن عجيب الفراسة ما ذكر عن أحمد بن طولون : أنه بينما هو في مجلس له يتنزه فيه ، إذ رأى سائلا في ثوب خلق ، فوضع دجاجة في رغيف وحلوى وأمر بعض الغلمان بدفعه إليه ، فلما وقع في يده لم يهش ، ولم يعبأ به ، فقال للغلام : جئني به ، فلما وقف قدامه استنطقه ، فأحسن الجواب ، ولم يضطرب من هيبته ، فقال : هات الكتب التي معك ، واصدقني من بعثك ، فقد صح عندي أنك صاحب خبر .
وأحضر السياط ، فاعترف ، فقال بعض جلسائه : هذا والله السحر ، قال : ما هو بسحر ، ولكن فراسة صادقة ، رأيت سوء حاله ، فوجهت إليه بطعام يشره إلى أكله الشبعان ، فما هش له ، ولا مد يده إليه ، فأحضرته فتلقاني بقوة جأش ، فلما رأيت رثاثة حاله ، وقوة جأشه ، علمت أنه صاحب خبر ، فكان كذلك .
ورأى يوما حمالا يحمل صنا وهو يضطرب تحته ، فقال : لو كان هذا الاضطراب من ثقل المحمول لغاصت عنق الحمال ، وأنا أرى عنقه بارزة ، وما أرى هذا الأمر إلا من خوف ، فأمر بحط الصن ، فإذا فيه جارية قد قتلت وقطعت ، فقال : اصدقني عن حالها ، فقال : أربعة نفر في الدار الفلانية أعطوني هذه الدنانير ، وأمروني بحمل هذه المقتولة . فضربه وقتل الأربعة .
وكان يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قراءة الأئمة فدعا ثقته ، وقال : خذ هذه الدنانير ، وأعطها إمام مسجد كذا ، فإنه فقير مشغول القلب . ففعل ، وجلس معه وباسطه ، فوجد زوجته قد ضربها الطلق ، وليس معه ما يحتاج إليه فقال : صدق ، عرفت شغل قلبه في كثرة غلطه في القراءة .
ومن ذلك : أن اللصوص أخذوا في زمن المكتفي مالا عظيما ، فألزم المكتفي صاحب الشرطة بإخراج اللصوص . ، أو غرامة المال ، فكان يركب وحده ، ويطوف ليلا ونهارا ، إلى أن اجتاز يوما في زقاق خال في بعض أطراف البلد ، فدخله فوجده منكرا ، ووجده لا ينفذ ، فرأى على بعض أبوابه شوك سمك كثير ، وعظام الصلب .
فقال لشخص : كم يكون تقدير ثمن هذا السمك الذي هذه عظامه ؟ قال : دينار ، قال : أهل الزقاق لا تحتمل أحوالهم مشتري مثل هذا ، لأنه زقاق بين الاختلال إلى جانب الصحراء ، لا ينزله من معه شيء يخاف عليه ، أو له مال ينفق منه هذه النفقة ، وما هي إلا بلية ، ينبغي أن يكشف عنها ، فاستبعد الرجل هذا ، وقال : هذا فكر بعيد ، فقال : اطلبوا لي امرأة من الدرب أكلمها . فدق بابا غير الذي عليه الشوك واستسقى ماء ، فخرجت عجوز ضعيفة . فما زال يطلب شربة بعد شربة ، وهي تسقيه ، وهو في خلال ذلك يسأل عن الدرب وأهله ، وهي تخبره غير عارفة بعواقب ذلك ، إلى أن قال لها : وهذه الدار من يسكنها ؟ - وأومأ إلى التي عليها عظام السمك - فقالت : فيها خمسة شباب أعفار ، كأنهم تجار ، وقد نزلوا منذ شهر لا نراهم نهارا إلا في كل مدة طويلة ، ونرى الواحد منهم يخرج في الحاجة ويعود سريعا ، وهم في طول النهار يجتمعون فيأكلون ويشربون ، ويلعبون بالشطرنج والنرد ، ولهم صبي يخدمهم ، فإذا كان الليل انصرفوا إلى دار لهم بالكرخ ، ويدعون الصبي في الدار يحفظها . فإذا كان سحرا جاءوا ونحن نيام لا نشعر بهم فقالت للرجل : هذه صفة لصوص أم لا ؟ قال : بلى ، فأنفذ في الحال ، فاستدعى عشرة من الشرط ، وأدخلهم إلى أسطحة الجيران ، ودق هو الباب ، فجاء الصبي ففتح . فدخل الشرط معه ، فما فاته من القوم أحد فكانوا هم أصحاب الجناية بعينهم .
ومن ذلك : أن بعض الولاة سمع في بعض ليالي الشتاء صوتا بدار يطلب ماء باردا ، فأمر بكبس الدار ، فأخرجوا رجلا وامرأة ، فقيل له : من أين علمت ؟ قال : الماء لا يبرد في الشتاء ، إنما ذلك علامة بين هذين .
وأحضر بعض الولاة شخصين متهمين بسرقة ، فأمر أن يؤتى بكوز من ماء ، فأخذه بيده ثم ألقاه عمدا فانكسر ، فارتاع أحدهما ، وثبت الآخر فلم يتغير ، فقال للذي انزعج : اذهب ، وقال للآخر : أحضر العملة . فقيل له : ومن أين عرفت ذلك ؟ فقال : اللص قوي القلب لا ينزعج ، والبريء يرى أنه لو تحركت في البيت فأرة لأزعجته ، ومنعته من السرقة00
------------------------
نقلت لكم هذا الموضوع أملاً أن يحوز على رضاكم وأن تعم الفايدة
تعليق