الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فالشعر كان له عند العرب عظيم الموقع قال الأول منهم:
وجرح اللسان كجرح اليد..(1)
ويقال: الشعر ديوان العرب (2) وقد استمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشعر ففي صحيح مسلم (2255) عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: هل معك من شعر أميه بن أبي الصلت شيء قلت: نعم قال: هيه فأنشدته بيتاً فقال: هيه ثم أنشدته بيتاً فقال: هيه.حتى أنشدته مائة بيت.
قال الإمام القرطبي في أحكام القرآن (13/131): (وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعاً وطبعاً وإنما استكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعر أمية، لأنه كان حكيما).
وفي صحيح البخاري (6145) عن أبي من كعب رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الشعر حكمة)
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/194): (هي هذه المواعظ والأمثال التى يتعظ بها الناس).
وقد نص الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه على مسلم (15/12) على جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه، شعر الجاهلية وغيره.
بل قال ابن قدامة في المغني (14/164) (وليس في إباحة الشعر خلاف، وقد قاله الصحابة والعلماء، والحاجة تدعوا إليه لمعرفة اللغة والعربية، والاستشهاد به في التفسير، وتعرف معاني كلام الله - تعالى -، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويستدل به أيضاً على النسب والتاريخ، وأيام العرب)..
ومن المقرر لدى أهل العلم أن الشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. فهو لا يكره لذاته وإنما لما ينضمنه من معان سامية حميدة فيكون مليحاً، أو معان سيئة قبيحة فيكون مرفوضاً مرذولاً.
أخرج البخاري في الأدب المفرد(865)، والدارقطني(4/156)والطبراني في الأوسط (7696)من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعا بلفظ: (الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام) وسنده ضعيف لضعف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي (3)
وأخرج البخاري في الأدب المفرد(866)عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح خذ بالحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا ودون ذلك(4)
ونقل البيهقي في السنن الكبرى (10/ 237) عن الشافعي - رحمه الله - قال: (الشعر كلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام غير أنه كلام باق سائر فذلك فضله على الكلام)
قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد (22/194): (ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثل به أو سمعه مرضية ما كان حكمة أو مباحاً ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعة ولا قوله)
وقال ابن قدامة في المغني(14/162): (والشعر كالكلام حسنة كحسنة، وقبيحة كقبيحه)
وقال الشنقيطي في أضواء البيان (6/390): (واعلم أن التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح).
* أقول وعليه فالشعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قال القرطبي في أحكام القرآن (12/247): (أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا، والأولى التفصيل)
القسم الأول: الشعر الحسن الذي فيه الذب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنته، أو الدفاع عن الدين وأهله، أو الحض على الطاعات ومكارم الأخلاق، أو التحذير من المعاصي ومساوئ الأخلاق، أو الزهد في الدنيا، أو الحث على العلم. فهذا يستحب إنشاده واستماعه.
في صحيح البخاري (3040)، ومسلم(2485)عن سعيد ابن المسيب قال: مر عمر -رضي الله عنه - في المسجد وحسان ينشد فقال كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أجب عني اللهم أيده بروح القدس). قال: نعم.
وفي صحيح مسلم (2490)عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اهجو قريشا فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل, فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم فلم يرض, فأرسل إلى كعب بن مالك, ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها, وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
قالت عائشة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله, وقالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى قال حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه * * * وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا تقيا * * * رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي * * * لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها * * * تثير النقع من كنفي كداء
يبارين الأعنة مصعدات * * * على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات * * * تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا * * * وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم* * * يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبدا* * * يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد يسرت جندا* * * هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد* * * سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منك* * * ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا* * * وروح القدس ليس له كفاء
قال القرطبي في أحكام القرآن (12/247): (ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله - عز وجل - أو على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الذب عنهما كما كان شعر حسان أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها فهو حسن في المساجد وغيرها كقول القائل:
طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا * * * وذريني لست أبغي غير ربي أحدا
فهو أنسي وجليسي ودعي الناس * * * فما إن تجدي من دونه ملتحدا
روى ابن الجوزي بسنده في كتابه تلبيس ابليس (1/275) عن أبي حامد الخلفاني قال قلت: لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شيء تقول فيها؟ فقال: مثل أي شيء؟ قلت: يقولون:
إذا ما قال لي ربي * * * أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي * * * وبالعصيان تأتيني
فقال: أعد علي فأعدت عليه فقام ودخل بيته ورد الباب - فسمعت نحيبه من داخل وهو يقول:
إذا ما قال لي ربي * * * أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي * * * وبالعصيان تأتيني
القسم الثاني: الشعر المحرم كالشعر الذي فيه أذية لأحد المسلمين بالهجاء وقول الفحش، أو المدح بالكذب والباطل والثناء على الكفار وأهل المجون والفسق، أو الدعوة إلى الخنا والزنا وشرب الخمور ورذائل الأخلاق.. فهذا محرم إذا كان بالكلام، فكيف إذا كان بالشعر الذي يحفظه حتى الغلمان، وتسير به الركبان؟! فهذا لا يحل سماعه ولا إنشاده (5)
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (13/134): (وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنتره، وأشحهم على حاتم، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول)
بل نقل البيهقي في السنن الكبرى (10/ 237) عن الشافعي - رحمه الله - أن من كان من الشعراء لا يعرف بنقص المسلمين وأذاهم والإكثار من ذلك ولا بأن يمدح فيكثر الكذب لم ترد شهادته.
قال ابن قدامة في المغني (14/164): (فأما الشاعر فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل: أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا فيهجو القبيلة بأسرها (6))...
وفي مغني المحتاج للشربيني (4/208): (والشعر مباح إن لم يكن فيه سخف أو حث على شر).
قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين (2/282)عن الشعر: (فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو أو ما هو كذب على الله - تعالى - وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو على الصحابة - رضي الله عنهم - كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان والمستمع شريك للقائل)
* أقول وشعر الغزل والتشبيب (7) بالنساء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون التغزل بامرأة بعينها، أو بشعر فاحش في وصفها، فهذا لا ريب في تحريمه..
نص على هذا علماء الحنابلة، واختاره ابن قدامة، والحافظ ابن حجر العسقلاني.
قال ابن قدامة في المغني (14/164) بتصرف: (الشعر الذي فيه التشبيب بامرأة بعينها والإفراط في وصفها ذكر أصحابنا أنه محرم) قال: (وهو الصحيح).
وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/539) أن الشعر يكون مباحا إذا خلا من الهجو والإغراق في المدح والكذب المحض والتغزل بمعين لا يحل.
قال الألوسي في روح المعاني (19/151)بتصرف: (وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضا ما فيه تشبيب بامرأة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش).
ولم أجد من أباح ذلك وأجازه إلا أبا حامد الغزالي قال في إحياء علوم الدين (2/282) (فأما التشبيب وهو التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن(8))(9).
إلا أنه قيد ذلك بقيد فقال: (وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة فإن نزله فلينزله على من يحل له من زوجته وجاريته فإن نزله على أجنبية فهو العاصي بالتنزيل وإحالة الفكر فيه)!!
ونص فأصاب على أن لا يكون ذلك في امرأة معينه فقال: (وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين الرجال).
القسم الثاني: أن يكون الغزل لا يتعلق بامرأة بعينها وإنما بمبهمة، ويكون رقيقا لا فحش فيه، وأن لا يكون ديدن الإنسان وألا يكثر منه، وأن لا يكون سببا لإثارة فتنة.
فهذا من أهل العلم من أجازه بهذه الشروط، ومن أهل العلم من كرهه كالإمام أحمد - رحمه الله - وغيره.
فالشعر كان له عند العرب عظيم الموقع قال الأول منهم:
وجرح اللسان كجرح اليد..(1)
ويقال: الشعر ديوان العرب (2) وقد استمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشعر ففي صحيح مسلم (2255) عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: هل معك من شعر أميه بن أبي الصلت شيء قلت: نعم قال: هيه فأنشدته بيتاً فقال: هيه ثم أنشدته بيتاً فقال: هيه.حتى أنشدته مائة بيت.
قال الإمام القرطبي في أحكام القرآن (13/131): (وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعاً وطبعاً وإنما استكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعر أمية، لأنه كان حكيما).
وفي صحيح البخاري (6145) عن أبي من كعب رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الشعر حكمة)
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/194): (هي هذه المواعظ والأمثال التى يتعظ بها الناس).
وقد نص الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه على مسلم (15/12) على جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه، شعر الجاهلية وغيره.
بل قال ابن قدامة في المغني (14/164) (وليس في إباحة الشعر خلاف، وقد قاله الصحابة والعلماء، والحاجة تدعوا إليه لمعرفة اللغة والعربية، والاستشهاد به في التفسير، وتعرف معاني كلام الله - تعالى -، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويستدل به أيضاً على النسب والتاريخ، وأيام العرب)..
ومن المقرر لدى أهل العلم أن الشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. فهو لا يكره لذاته وإنما لما ينضمنه من معان سامية حميدة فيكون مليحاً، أو معان سيئة قبيحة فيكون مرفوضاً مرذولاً.
أخرج البخاري في الأدب المفرد(865)، والدارقطني(4/156)والطبراني في الأوسط (7696)من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعا بلفظ: (الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام) وسنده ضعيف لضعف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي (3)
وأخرج البخاري في الأدب المفرد(866)عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح خذ بالحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا ودون ذلك(4)
ونقل البيهقي في السنن الكبرى (10/ 237) عن الشافعي - رحمه الله - قال: (الشعر كلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام غير أنه كلام باق سائر فذلك فضله على الكلام)
قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد (22/194): (ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثل به أو سمعه مرضية ما كان حكمة أو مباحاً ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعة ولا قوله)
وقال ابن قدامة في المغني(14/162): (والشعر كالكلام حسنة كحسنة، وقبيحة كقبيحه)
وقال الشنقيطي في أضواء البيان (6/390): (واعلم أن التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح).
* أقول وعليه فالشعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قال القرطبي في أحكام القرآن (12/247): (أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا، والأولى التفصيل)
القسم الأول: الشعر الحسن الذي فيه الذب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنته، أو الدفاع عن الدين وأهله، أو الحض على الطاعات ومكارم الأخلاق، أو التحذير من المعاصي ومساوئ الأخلاق، أو الزهد في الدنيا، أو الحث على العلم. فهذا يستحب إنشاده واستماعه.
في صحيح البخاري (3040)، ومسلم(2485)عن سعيد ابن المسيب قال: مر عمر -رضي الله عنه - في المسجد وحسان ينشد فقال كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أجب عني اللهم أيده بروح القدس). قال: نعم.
وفي صحيح مسلم (2490)عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اهجو قريشا فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل, فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم فلم يرض, فأرسل إلى كعب بن مالك, ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها, وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
قالت عائشة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله, وقالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى قال حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه * * * وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا تقيا * * * رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي * * * لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها * * * تثير النقع من كنفي كداء
يبارين الأعنة مصعدات * * * على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات * * * تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا * * * وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم* * * يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبدا* * * يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد يسرت جندا* * * هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد* * * سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منك* * * ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا* * * وروح القدس ليس له كفاء
قال القرطبي في أحكام القرآن (12/247): (ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله - عز وجل - أو على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الذب عنهما كما كان شعر حسان أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها فهو حسن في المساجد وغيرها كقول القائل:
طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا * * * وذريني لست أبغي غير ربي أحدا
فهو أنسي وجليسي ودعي الناس * * * فما إن تجدي من دونه ملتحدا
روى ابن الجوزي بسنده في كتابه تلبيس ابليس (1/275) عن أبي حامد الخلفاني قال قلت: لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شيء تقول فيها؟ فقال: مثل أي شيء؟ قلت: يقولون:
إذا ما قال لي ربي * * * أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي * * * وبالعصيان تأتيني
فقال: أعد علي فأعدت عليه فقام ودخل بيته ورد الباب - فسمعت نحيبه من داخل وهو يقول:
إذا ما قال لي ربي * * * أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي * * * وبالعصيان تأتيني
القسم الثاني: الشعر المحرم كالشعر الذي فيه أذية لأحد المسلمين بالهجاء وقول الفحش، أو المدح بالكذب والباطل والثناء على الكفار وأهل المجون والفسق، أو الدعوة إلى الخنا والزنا وشرب الخمور ورذائل الأخلاق.. فهذا محرم إذا كان بالكلام، فكيف إذا كان بالشعر الذي يحفظه حتى الغلمان، وتسير به الركبان؟! فهذا لا يحل سماعه ولا إنشاده (5)
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (13/134): (وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنتره، وأشحهم على حاتم، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول)
بل نقل البيهقي في السنن الكبرى (10/ 237) عن الشافعي - رحمه الله - أن من كان من الشعراء لا يعرف بنقص المسلمين وأذاهم والإكثار من ذلك ولا بأن يمدح فيكثر الكذب لم ترد شهادته.
قال ابن قدامة في المغني (14/164): (فأما الشاعر فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل: أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا فيهجو القبيلة بأسرها (6))...
وفي مغني المحتاج للشربيني (4/208): (والشعر مباح إن لم يكن فيه سخف أو حث على شر).
قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين (2/282)عن الشعر: (فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو أو ما هو كذب على الله - تعالى - وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو على الصحابة - رضي الله عنهم - كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان والمستمع شريك للقائل)
* أقول وشعر الغزل والتشبيب (7) بالنساء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون التغزل بامرأة بعينها، أو بشعر فاحش في وصفها، فهذا لا ريب في تحريمه..
نص على هذا علماء الحنابلة، واختاره ابن قدامة، والحافظ ابن حجر العسقلاني.
قال ابن قدامة في المغني (14/164) بتصرف: (الشعر الذي فيه التشبيب بامرأة بعينها والإفراط في وصفها ذكر أصحابنا أنه محرم) قال: (وهو الصحيح).
وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/539) أن الشعر يكون مباحا إذا خلا من الهجو والإغراق في المدح والكذب المحض والتغزل بمعين لا يحل.
قال الألوسي في روح المعاني (19/151)بتصرف: (وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضا ما فيه تشبيب بامرأة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش).
ولم أجد من أباح ذلك وأجازه إلا أبا حامد الغزالي قال في إحياء علوم الدين (2/282) (فأما التشبيب وهو التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن(8))(9).
إلا أنه قيد ذلك بقيد فقال: (وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة فإن نزله فلينزله على من يحل له من زوجته وجاريته فإن نزله على أجنبية فهو العاصي بالتنزيل وإحالة الفكر فيه)!!
ونص فأصاب على أن لا يكون ذلك في امرأة معينه فقال: (وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين الرجال).
القسم الثاني: أن يكون الغزل لا يتعلق بامرأة بعينها وإنما بمبهمة، ويكون رقيقا لا فحش فيه، وأن لا يكون ديدن الإنسان وألا يكثر منه، وأن لا يكون سببا لإثارة فتنة.
فهذا من أهل العلم من أجازه بهذه الشروط، ومن أهل العلم من كرهه كالإمام أحمد - رحمه الله - وغيره.
تعليق