إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أدب السجون . . . ((تلك العتمة الباهرة))

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أدب السجون . . . ((تلك العتمة الباهرة))

    [align=center][mark=#000000][bor=#666666]











    [CENTER]










    الحديث عن أدب السجون حديثٌ يعني أنْ نتأهبَّ لانفتاحِ نافذةِ الألمِ والحُزْنِ والضيّاع ، ويعني أنّنا سنغمسُ مشاعرنا بين وحشة الظّلام وقلق الحَيْرةِ ، ويعني أيضاً أنّنا سنُسْبِل الدّمْعة على أحلامٍ كثيرةٍ تاهتْ في مدى الشّتات متكسرةً ، ويعني أنّه ستسكن في داخلنا لوعة كبيرة من هذه النافذة القبيحة . الفضل في صناعة ثقافة أدب السجون وانتشارها واختلاف تناولها وسردها في الوطن العربي يعود لتلك المعتقلات والسجون والسراديب التي بناها الطغاة من حكام العرب ، من أجل أن يقذفوا في غياهب جحيمها الكثير ممن يخالفهم سياساتِهم وآرائِهم الخاطئة . أدب السجون يعني ذلك الإنتاج الأدبيّ الذي جاء نتيجة تجربةٍ واقعيةٍ شخصيةٍ عايشها أيُّ إنسانٍ ضد حريته ورأيه وإنسانيّته وكرامته ، في أيّ مكانٍ خُصّصت مساحاته لأن تكون عقوبةً تعسفيةً منتظرةً لكل من يُخالف سياسة السُّلطان المستبدّ ، أي أنها سرد ونقل تجربة ومعاناة شخصية سياسية اعتقالية في إطارٍ أدبيّ .
    ويذكر التاريخ أن سجن المُطبِق الذي بناه الخليفة أبو جعفر المنصور عام 146هـ ، في بغداد مقرّ العاصمة العباسية آنذاك هو أول سجن من نوعه ، حيث كان حديث البنيان وكبير المساحة يقع بين سورين ضخمين ولهذا السبب سماه المُطبِق . ولقد ألقى فيه أبو جعفر المنصور الكثير من خصومه السياسيين ورجال دولته اللذين غضب منهم . وأود أن أذْكُر للقارئ الكريم أنه كلما كانت سياسة الدولة سياسة قمعية وتعامل مثقفيها بالحديد والنار كلما ظهرت وازدادت فيها ( ثقافة الرمز ) ، تلك الثقافة التي جنح إليها الكثير من المثقفين على سائر اختلاف اهتماماتهم كيّ يتنفسوا من خلالها ويعبرون عن سخطهم واعتراضهم على سياسة الدولة التعسفية . والآن يأتي الحديث عن رواية ( تلك العتمة الباهرة ). هذه الرّواية تُصنّف أنّها من أدب السّجون ، وهي مستلهمة من أحداث وشهادة حقيقية لأحد المساجين الذين نجوْا من معتقل تزمامارت يدعى عزيز ، والمؤلّف الذي تعب على خروج هذه الرواية للعالم ونسج أيّامها وجَدّلَ لحظاتها ورتّب وقائعها وصفّف مشاعرها ونقل تاريخها هو الروائي الطاهر بن جلوُّن . والطاهر بن جلُّوُن ولد في المغرب بمدينة فاس في 1 ديسمبر 1944 م . هذه الرواية تحكي مأساة مجموعة من العسكريين الذين تورّطوا بمحاولة انقلاب ضد ملك المغرب الحسن الثاني ، حيث قام أحد القادة العسكريين الكبار بخداعهم واقتيادهم نحو قصر الصُّخَيْرات الملكي ، رغم أن المعلومة التي خرجوا من أجلها كانت من أجل المشاركة في مناورة عسكرية فقط ! وكان ذلك في العاشر من يوليو 1971 م . ومن ثمّ تمّ القبض على مُخطّطي ومُنفّذي هذه المحاولة الانقلابية ، ثمّ أودعوا في إحدى السّجون ومن ثمّ تمّ نقلهم إلى ( تازمامارت ) ، وهو معتقل سرّي سابق قُذف فيه الكثير من المغاربة خلال ما يُسمى بـسنوات الرّصاص ، وكان هذا المعتقل مدينة كبيرة للعذاب والقهر والفقد . ويقع ( تازمامارت ) على أطراف الصّحراء الشّرقية المغربيّة . تم فتح فكيّه لالتهام المعتقلين في شهر أغسطس 1973 م وأُغلق بتاريخ 15 سبتمبر 1991 م ، وأول وجبة التهمها هذا المعتقل الوحشيّ هي مجموعة من العسكريين ممن اتّهِموا في المحاولتين الانقلابيتين: الصخيرات ومحاولة انقلاب أوفقير عام 1972 م ، ثم معارضي النظام الملكي من أصحاب الرأي . في الجناح ( ب ) القابع في ( تازمامارت ) ، كان هناك ثلاثة وعشرين إنساناً ، كل واحد منهم وضع في زنزانة خاصة بهِ ، وكانت هذه الزنازين عبارة عن حُفر ضيقة ورطبة ومُظلمة ، طولها ثلاثة أمتار وعرضها المتر ونصف المتر ، فيها يتبولون ويتبرزون ويأكلون ويشربون ! في مكان لا يرون فيه إلا الظلام ولا يسمعون فيه إلا خشخشة الحشرات ! ولم يكونوا يشعرون بنور الشمس والسماء والهواء الطلق إلا في فترات طويلة متقطعة ، وهي عندما يخرجون لدفن من يموت منهم . ولقد أجاد الطاهر بن جلُّون في دقة كبيرة وإحساس عميق أن ينقل ما دار في ذلك المعتقل على لسان عزيز ، ولقد أدهشني كثيراً في وصفه السردي للعديد من المواقف والتّجارب التي عانى منها المعتقلون في ليلهم أو نهارهم ، وتلك الأماني والتطلعات والأحلام والذكريات والعذابات التي يُحاكون أنفسهم فيها ويقطعون عبرها عزلتهم ووحدتهم وظلامهم وأيامهم ولياليهم ولحظاتهم الموحشة. وهنا يصف المؤلف على لسان المعتقل عزيز حال الاستسلام الحسي الذي كان عليه في المعتقل: " كان العفن ينال من أجسادنا عضواً تلو آخر ، والشيء الوحيد الذي تمكنت من الحفاظ عليه هو رأسي ، عقلي . كنت أتخلى لهم عن أعضائي ورجائي ألا يتمكنوا من ذهني ، من حريتي ، من نفحة الهواء الطلق ، من البصيص الخافت في ليلي " .
    ومن أجمل المشاهد الرائعة التي صوّرها بن جلُّون بقلمه هو ذلك المشهد البائس الحزين الذي تعرض له عزيز وهو في أعلى درجات الضعف الجسدي ، لحظة لدغته مجموعة من العقارب التي وصلت إلى حفرته وأخذت تسير على جسده وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً ! ، وكيف استطاع بشكل درامي أن يطرد من جوفه سمّ العقارب الذي كان أن يقتله في حفرته بسبب مكيدة أعدّها لها السجانون: " الوجع يمنحني صفاءً غير معتاد. أتألم ولكني أعلم ما الذي ينبغي فعله لكي تتوقف هذه المكيدة . يجب أن أتقّيأ ، أن أستفرغ كل هذه المِرّة التي تنصبُّ على أعضائي كلها ، ولكي أفعل ينبغي أن أُدخل أصابعي في فمي وأن أضغط على حلقي وأن أُخرج كل شيء . عندما يكون واحدنا في صحة جيدة تبدو مثل هذه العملية لعبة أطفال . ولكن حين يكون الجسم موجوعاً حتى التصلُّب تصبح كل حركة شاقة . أجلس مُتكئاً بظهري على الحائط ، ذراعي اليمنى مشلولة ، ملتصقة بالحائط ، كأنها مثبته إليه بكُلاّبات . يجب أن أنزعها متمهلاً وأرفعها بحركة مُدرّكة إلى فمي . إنه أمرٌ يسير إذا قلته ، لكنه من سابع المستحيلات إذا حاولته . أُركّز وعيي ولا أفكّر إلا في الذّراع ، كل جسدي أصبح الآن موجوداً في تلك الذّراع . إنّي ذراع جالسة على الأرض ويجب أن أدفع بكل ما أُتيت من قوة لكي أنهض . وإذ أُحدق فيها ، أتمكن من نسيان طعم المِرّ في فمي ، وألاّ أشعر إلا بأوجاع خفيفة في المفاصل . أتحسس الألم ، أشعر به مبتعداً من دون أن يزول . أُحني رأسي لكي أُدنيه من يدي . تصعد المِرّة فيّ حتى أكاد أشعُر بالاختناق . أسارع إلى رفع رأسي وأصدمه بالجدار ، ثم أثبته جيداً وأُغيّر خطتي: اليد هي التي ترتفع إلى الفم وليس العكس ، تستغرق العملية ساعات ، أستخدم ذراعي الأخرى كسندٍ لي ، أتصبب عرقاً من كل مسامِ جسمي ، قطراتٌ منه تنزُّ على يدي ، المهم ألا أتحرك ، وألا أُفكر في أي شيءٍ آخر سوى أن أرفع يدي ، أتخيل رافعةً ضئيلةَ الحجم تهبط من السّطح وتلتقط يدي ثم ترفعها بدقةٍ بالغة إلى فمي ، أنظر إلى السقف ، لا أرى شيئاً ، ففي الظلام لا أتمكن طبعاً من الإبصار لكني على الأقل أُخمّن الأشياء . فقد الزمن معناه ، أراه متمادياً بإفراط وشاغله الأوحد أن يشُل ذراعيّ ويديّ ، وعندما أتمكن بعد ساعاتٍ عديدة من إدخال فمي في يدي ، أتوقف قليلاً لكيّ أتمتع بانتصاري التافه ، ثم أضغط على اللسان ، لكن المِرّة لا تخرج على الفور ، وحين يُبلل الدفقُ الأول يديّ ورجليّ والأرضية ، تسري بي رعدة الارتياح ، أضغطُ مجدداً وأستفرغُ بقوّة أكبر ، لقد أصبحتُ ينبوع مِرّة . أشعر بِحكاكٍ في حَلْقي وأُحِسُّ بعينيّ جاحظتين والدّموع منهمرةً على خَدّي ، فما عاد في داخلي ذاك السّمّ الذي ألهب بُلعومي ".
    في رواية تلك العتمة الباهرة مواقف أُخرى كثيرة مدهشة ومحزنة ، منها لحظة أن رأى عزيز وجهه في المرآة في غرفة طبيب الأسنان بعد خروجه من المعتقل ، حيث لم يكن قبلها قد شاهد ملامح وجهه منذ ثماني عشرة سنة ! وكيف كان يصف تلك اللحظات المرعبة التي أخذ فيها يُحدقُ في تجاعيد وجهه وعيناه الجاحظتين وملامحه التي كانت تصرخ بالآه . رواية تلك العتمة الباهرة أختصر فيها بن جلُّون عشرين عاماً من العذاب واللاحياة في معتقل( تازمامارت ) ، حيث قّذِف في أحد أجنحته ثلاثة وعشرين إنساناً لم يتبقى منهم إلا ثلاثة فقط ، خرجوا منه للحياة كأنهم الأشباح ! هذه الرواية الجميلة أعادة لي الثقة في الرواية العربية ، وجعلتني أتجه من جديد لأن التفت نحو الروائي العربي ، حيث أن آخر رواية عربية قرأتها قبلها كانت منذ سنوات طويلة ، فيها قاطعت الرواية العربية وانكببت على الرواية الغربية. والحمد لله الذي لم يجعلنا نشاهد في دولتنا الكريمة أي مبنى شُيّد خصيصاً لسجناء الرأي والاعتقالات
    .




    روح (حسين الراوي )





    [/bor][/mark][/align]


    لمراسلتي إضغط هنا
يعمل...
X