كما تعرفنا على ابو نواس أنه انطلق من أولوية التجربه .. نتعرف الآن على أبو تمام فقد انطلق من أولوية اللغه الشعريه .
كان يريد أن يبدا من كلمة أولى قبل القصائد المتراكمه في التاريخ الشعري الذي سبقه : ( كلمه أولى يبدأ بها الشعر ) .
ومن هنا الحاحه الدائم على أن القصيده تكون عذريه أو لا تكون , ويعني ابو تمام بالعذريه أن شعره ( ابتكار ) لا على مثال ولذلك يمتنع مثله على غيره . ومن هنا يخدع الآخرين فهو البسيط الصعب , لا من حيث ابداعه وحسب بل من حيث تذوقه كذلك فتذوق الابداع , شأن الابداع , ممارسه أو هو كما يعبر أبو تمام شكل من أشكال افتراع العذريه .
شعر أبي تمام في هذا المنظور أنسي وحشي في آن : تأنس به القلوب لأنها تتجد به , لكنه في الوقت ذاته يستعصي على من يقلده , فإذا أراد الشعراء أن يأتوا بمثله تعذر عليهم لغرابته فشعره يصدر عن ( ضمير صَنَع ) وهو يتدفق كماء أصلي لا يعرف النضوب .
مع ذلك يرى أن مايطمح لكتابته لم يحققه بعد . فعلى الرغم انه يبدع باستمرار , فإنه يستقل ماينجزه , لأنه يشعر أن طاقته كامنه في ما لم ينجزه بعد .
بهذه العذريه يتحدث أبو تمام مثلا عن المطر . فيقول :
مطر يذوب الصّحومنه وخلفه .... صحو , يكاد من النضاره يمطر
غيثـان فالأنـواء غيـث طاهــر .... لك فعله , والّصّحـوُ غيث مضمر
وندى إذا ادّهنت به لم الثرى .... خلت السحـاب أتاك وهـو معذّر
الكلمه هنا لاتتناول من الشئ مظهره , وانما تتناول جوهر ( جوهره ) . وهكذا يبدو انها تنفيه فيما تثبته , وانها تغيبه فيما تظهره . فكما أن الكلمه بدايه , يريد أن يكون مايطابقها في العالم أو الطبيعه بدايه هو كذلك .
فالكلمه العذراء تقتضي شيئا بكراً . ثمة تطابق بين بكارة الكلمه وبكارة العالم _ والشعر هو التطابق أو زواج الكلمه البكر بالعالم البكر . هذا الزواج اتحاد حيوي من جهه , وتحويلي من جهه ثانيه . الكلمه إذن لا تعكس أشياء العالم , بل تعيد خلقها . انها تخلق العالم على طريقتها , مجااازياً .
من هنا كانت الكلمه عند أبي تمام اكثر ماده صوتيه , فكل كلمه تكشف عن شكل خاص من الوجود , بالاضافه الى انها تكشف عن شكل خاص من إيقاع . إنها بنيه عضويه تصل بنيويا بين الشاعر وأشياء العالم . وهذا يعني أن الكلمه تحتضن من الشئ فعاليته , فأبو تمام لايريد بهذه الأبيات مثلا ولا بشعره المماثل أن يردنا لى سرير الطبيعه , أو أن يزين لنا جسدها , ولكن يدفعنا لكي نرى أشياء الطبيعه في انفعالها وتفجرها الأصليين , أو في بكارتها . وهذا يقييم علاقه جديده بين الانسان وبينها وبالتالي بين الانسان والانسان . حيث تقوم علاقه جديده تزول الثرثره القديمه وتزول المجانيه التي ترافقها . وهكذا تدخل الى الكلام شراره لغويه جديده : هي شرارة الشعر الذي يعيد كل شئ الى بدايته الأصليه .
الجديد اذن غريب , وتعني الغرابه أن شعره غير ما ألفه الناس . فلغته أصليه , أوليه , ولغة الناس ليست الا صدى صاقطا لهذه اللغه الأوليه . لكن هذا السقوط منغرس في النفس الى درجه تبدو معها الغرابه أنها تأسيس للغه جديده . وكل تأسيس يبدو تجاوزاً وقد سمي هذا التجاوز (( إفســاداً )) وقيل ان كان هذا التجاوز صحيحا (( كان ماقاله العرب باطلا )). ومن هنا لاتعيدنا لغة أبي تمام الى ( جنه ضائعه ) ولكن يخلق لنا بُعداً آخر نستشف عبره جنه ثانيه . وحين نقرا شعره لايتولد فينا الشعور بأننا نتذكر أو نستعيد شيئا فقدناه , بل يتولد فينا الشعور نؤسس شيئا آخر . ولئن حافظ أبو تمام على الشكل الخارجي لبنية القصيدة التقليديه , فلقد غير نواته الأساسيه : الكلمه وغير علاقات الكلمه الصوتيه والدلاليه . ولهذا لم يعد الشكل عائقا دون بروز هذه العلاقات بل أصبح على العكس عنصرا ضدياً يزيد في بروزها , فلقد فجرّه من داخل بتركيبة اللغوي الجديد .
القافيه نفسها أكتسبت بُعداً آخر ومعنى لآخر , صارت نقطه ينتهي اليها سرب الكلمات في البيت . صارت مصبا لاندفاع ما , مركز تجمع لحشد ما , بؤرة ايقاق وتناغم , فهي مركز جذب للكلمات والصور , وقطب تنعقد فيه الأشعه التي تنبعث منها . القافيه تذكر وتحرض . تصل الإيقاع بما مضى , وتعد بإيقاعٍ آت , انها سفر وانتضار في آن .
إن فعل شعر ابو تمام يتوالد من طاقته اللغويه الخاصه . إن شعره فعّال بذاته , اذا كان شعر ابي نواس يحرّك بدافع مما قبل اللغه أو مما وراءها , فإن شعر ابي تمام يحرك بلغته ذاتها _ بما تكونه من تداعيات وعلاقات صوتيه وتخييلية ..
كان العالم يموت في دلالات العرف _ والعاده _ والتقليد ((( العرف _ والعاده _ والتقليد ))) فانبعث بشعر أبي تمام في دلالات جديده . وهكذا اتخذ جسدا آخر وبُعداً غير مألوف . لم تعد القصيده هيكلا يعلو في مكان , بل أصبحت ( حركه زمنيه ) : تتقدم في الزمان لحظه وتثبت عاليةً في المكان .
واذا كانت الكيمياء كما يعرفّها جابر بن حيّان : ( إعطاء الاجسام اصباغا لم تكن لها ) فإن بداية كيمياء الشعر هي ( إعطاء الكلمه معناً لم يكن لها ) . وهذا مافعله أبو تمام .
ملاحظه : هذا الموضوع يعتبر الموضوع الثاني أو الرحله الثانيه بعد : رحله مع الشعر الشعبي والحداثي والموسيقي والنثر ( فهو امتدادٌ له ) .
كان يريد أن يبدا من كلمة أولى قبل القصائد المتراكمه في التاريخ الشعري الذي سبقه : ( كلمه أولى يبدأ بها الشعر ) .
ومن هنا الحاحه الدائم على أن القصيده تكون عذريه أو لا تكون , ويعني ابو تمام بالعذريه أن شعره ( ابتكار ) لا على مثال ولذلك يمتنع مثله على غيره . ومن هنا يخدع الآخرين فهو البسيط الصعب , لا من حيث ابداعه وحسب بل من حيث تذوقه كذلك فتذوق الابداع , شأن الابداع , ممارسه أو هو كما يعبر أبو تمام شكل من أشكال افتراع العذريه .
شعر أبي تمام في هذا المنظور أنسي وحشي في آن : تأنس به القلوب لأنها تتجد به , لكنه في الوقت ذاته يستعصي على من يقلده , فإذا أراد الشعراء أن يأتوا بمثله تعذر عليهم لغرابته فشعره يصدر عن ( ضمير صَنَع ) وهو يتدفق كماء أصلي لا يعرف النضوب .
مع ذلك يرى أن مايطمح لكتابته لم يحققه بعد . فعلى الرغم انه يبدع باستمرار , فإنه يستقل ماينجزه , لأنه يشعر أن طاقته كامنه في ما لم ينجزه بعد .
بهذه العذريه يتحدث أبو تمام مثلا عن المطر . فيقول :
مطر يذوب الصّحومنه وخلفه .... صحو , يكاد من النضاره يمطر
غيثـان فالأنـواء غيـث طاهــر .... لك فعله , والّصّحـوُ غيث مضمر
وندى إذا ادّهنت به لم الثرى .... خلت السحـاب أتاك وهـو معذّر
الكلمه هنا لاتتناول من الشئ مظهره , وانما تتناول جوهر ( جوهره ) . وهكذا يبدو انها تنفيه فيما تثبته , وانها تغيبه فيما تظهره . فكما أن الكلمه بدايه , يريد أن يكون مايطابقها في العالم أو الطبيعه بدايه هو كذلك .
فالكلمه العذراء تقتضي شيئا بكراً . ثمة تطابق بين بكارة الكلمه وبكارة العالم _ والشعر هو التطابق أو زواج الكلمه البكر بالعالم البكر . هذا الزواج اتحاد حيوي من جهه , وتحويلي من جهه ثانيه . الكلمه إذن لا تعكس أشياء العالم , بل تعيد خلقها . انها تخلق العالم على طريقتها , مجااازياً .
من هنا كانت الكلمه عند أبي تمام اكثر ماده صوتيه , فكل كلمه تكشف عن شكل خاص من الوجود , بالاضافه الى انها تكشف عن شكل خاص من إيقاع . إنها بنيه عضويه تصل بنيويا بين الشاعر وأشياء العالم . وهذا يعني أن الكلمه تحتضن من الشئ فعاليته , فأبو تمام لايريد بهذه الأبيات مثلا ولا بشعره المماثل أن يردنا لى سرير الطبيعه , أو أن يزين لنا جسدها , ولكن يدفعنا لكي نرى أشياء الطبيعه في انفعالها وتفجرها الأصليين , أو في بكارتها . وهذا يقييم علاقه جديده بين الانسان وبينها وبالتالي بين الانسان والانسان . حيث تقوم علاقه جديده تزول الثرثره القديمه وتزول المجانيه التي ترافقها . وهكذا تدخل الى الكلام شراره لغويه جديده : هي شرارة الشعر الذي يعيد كل شئ الى بدايته الأصليه .
الجديد اذن غريب , وتعني الغرابه أن شعره غير ما ألفه الناس . فلغته أصليه , أوليه , ولغة الناس ليست الا صدى صاقطا لهذه اللغه الأوليه . لكن هذا السقوط منغرس في النفس الى درجه تبدو معها الغرابه أنها تأسيس للغه جديده . وكل تأسيس يبدو تجاوزاً وقد سمي هذا التجاوز (( إفســاداً )) وقيل ان كان هذا التجاوز صحيحا (( كان ماقاله العرب باطلا )). ومن هنا لاتعيدنا لغة أبي تمام الى ( جنه ضائعه ) ولكن يخلق لنا بُعداً آخر نستشف عبره جنه ثانيه . وحين نقرا شعره لايتولد فينا الشعور بأننا نتذكر أو نستعيد شيئا فقدناه , بل يتولد فينا الشعور نؤسس شيئا آخر . ولئن حافظ أبو تمام على الشكل الخارجي لبنية القصيدة التقليديه , فلقد غير نواته الأساسيه : الكلمه وغير علاقات الكلمه الصوتيه والدلاليه . ولهذا لم يعد الشكل عائقا دون بروز هذه العلاقات بل أصبح على العكس عنصرا ضدياً يزيد في بروزها , فلقد فجرّه من داخل بتركيبة اللغوي الجديد .
القافيه نفسها أكتسبت بُعداً آخر ومعنى لآخر , صارت نقطه ينتهي اليها سرب الكلمات في البيت . صارت مصبا لاندفاع ما , مركز تجمع لحشد ما , بؤرة ايقاق وتناغم , فهي مركز جذب للكلمات والصور , وقطب تنعقد فيه الأشعه التي تنبعث منها . القافيه تذكر وتحرض . تصل الإيقاع بما مضى , وتعد بإيقاعٍ آت , انها سفر وانتضار في آن .
إن فعل شعر ابو تمام يتوالد من طاقته اللغويه الخاصه . إن شعره فعّال بذاته , اذا كان شعر ابي نواس يحرّك بدافع مما قبل اللغه أو مما وراءها , فإن شعر ابي تمام يحرك بلغته ذاتها _ بما تكونه من تداعيات وعلاقات صوتيه وتخييلية ..
كان العالم يموت في دلالات العرف _ والعاده _ والتقليد ((( العرف _ والعاده _ والتقليد ))) فانبعث بشعر أبي تمام في دلالات جديده . وهكذا اتخذ جسدا آخر وبُعداً غير مألوف . لم تعد القصيده هيكلا يعلو في مكان , بل أصبحت ( حركه زمنيه ) : تتقدم في الزمان لحظه وتثبت عاليةً في المكان .
واذا كانت الكيمياء كما يعرفّها جابر بن حيّان : ( إعطاء الاجسام اصباغا لم تكن لها ) فإن بداية كيمياء الشعر هي ( إعطاء الكلمه معناً لم يكن لها ) . وهذا مافعله أبو تمام .
ملاحظه : هذا الموضوع يعتبر الموضوع الثاني أو الرحله الثانيه بعد : رحله مع الشعر الشعبي والحداثي والموسيقي والنثر ( فهو امتدادٌ له ) .
تعليق