تجف ينابيع السنين، ويبقى البحر زاخر الموج والملح والذكريات، والحضن الدافئ لحبات الرمل المتناثرة، والليل التشريني المتمرد القابع على سرير البحر كأنه ظلال الخوف، والذي اتخذ من امتداد الريح مركبا ً يسحب آخره إلى آخره.
وهناك على ضفاف الخليج موانئ أنهكها رحيل القدامى من المرتادين، وكأنها هي الأخرى تشيح بوجهها عن البحر الممزوج بالغدر منذ سالف العصر والأوان، كيلا تتذكر صوت النهام ، وترديد من على ظهر السفينة، وهم يودعون ذويهم على لقاء ٍ قريب، لا يعلمون متى بالضبط، فتتألم.
وكعادة الليل التشريني المشبع بالبرد والظلام، يأخذني إلى حيث كانت ويذكرني بها، فأقف إلى حدود الساحل، بالقرب من الميناء القديم، فتعج في متاهات عقلي ( خماسين ) ذكراها، زوبعة من الحلم والخيال، ولكنها دون أدنى شك ... حقيقة.
أدرت محرك سيارتي عصر يوم أربعاء بعيد، متجها ً إلى حيث اتفقت وزميلي عبد الرحمن ، للجلوس على الشاطئ الرملي للساحل الشرقي بالمدينة، والقريب من الميناء القديم الذي أغلق قبل خمسة عشر عام، بسبب اختفاء الشاب منصور، وذلك لأنه أصبح نذير شؤم على البحارة والصيادين، وقد قيل أنه أغلق لأن هناك جناً يتسللون من البحر للمدينة من خلاله، وكأنه منفذ لبث الرعب والوحشة عندما ينتصف ليل الشوارع والمساكن، حيث أنه أصبح مسكناً لما يدعونه البعض بـ ( جن الساحل ).
وقفت بالقرب من الرصيف البحري، في انتظار زميلي والساعة تشير إلى الخامسة مساء.
نزلت لأستند على مقدمة السيارة، ألهو بمسبحتي، وأشاهد المارة لعل فيهم من أعرفه، ومع أنني شديد الملاحظة، لم يلفت انتباهي سواها.
قد لاطف العليل من الهواء شعرها الكستنائي وأطراف ثوبها ( الشامواه ) الأسود، والموج تحت قدميها يروح ويغدو، وهي كالجثة الواقفة، كأنها تنتظر أحداً من البحر سيأتي.
غريبة تلك الفتاة، وقفتها تنم عن شيء ما في قلبها.
فأخذت أغني لأقطع استرسالي بها، وأفكر في زميلي الذي لا يتوانى أبدا ً عن مخالفة المواعيد خصوصا ً معي.
مرت حوالي ساعة وأنا أنتظر، وهي تنظر للبحر، ساعة كاملة لم تتحرك.
ترى ما بها ؟ أهي صورة حديثة للموت وقوفا ً، أم أنها عنجهية فتاة لم يعجبها الاسترخاء ألا وقوفاً.
الشمس على مشارف المغيب، وهي على مشارف المغيب، تريد الرحيل إلى حيث الغد، ولم يبق من الزمن سوى ربع ساعة لتضيء شرفات المدينة في حفل ٍ بهيج كالعادة، تستقبل به ليلها المخيف.
فتوجست في نفسي رغبة ملحة في الاقتراب منها وسؤالها، ما إذا كانت تنتظر أحدا ً، أو تريد المساعدة، ولكن كيف أكلمها و البحر خيالها، وعلى مدى ساعة لم تتحرك، ولم تشح بوجهها عن البحر.
إذاً سأحاول أن ألفت انتباهها.
اقتربت منها، وبطريقة ٍعفوية قلت:
-البحر جميل سيدتي، أليس كذلك؟
-جميل ويعجبني غدره الدائم!
-أوه، هل الغدر سمة تستحق الإعجاب؟
-نعم، إذا كان ليس له ما يميزه غيرها.
كانت تحادثني ولم تلتفت إلى، أهي صورة أخرى لعدم المبالاة، قلت:
-ولكنني أراك لأكثر من ساعة وأنتِ هكذا؟
-ألا ترى البحر وزرقته عندما ودعني ؟ هو نفس البحر وزرقته عندما يعود.
-أتنتظرين عودة شخص ما ؟
-نعم.
-منذ متى؟
-منذ أن رحل إلى حيث البعاد.
-وهل للبعاد مكان أو حد؟
-حدوده الشوق والانتظار.
-وهل أنتِ مشتاقة إلى هذا الحد؟
-وكيف لا أشتاق إلى روحي!
-وروحك .. ألا تشتاق إليك؟
-بلى، فكل يوم أربعاء وقلبي يناديه، فأسمعه يئن خلف الأمواج.
-أتسمعينه الآن يئن؟
-أسمعه كل يوم أربعاء قبيل غروب الشمس، ؟
-ولماذا الأربعاء عصرا ً؟
-وقت رحيله عني ... هنا.
-هنا، هنا!
-نعم هنا.
فأدركت أن في المسألة سرا ًما، فقلت:
-أتقصدين منصور الذي رحل قبل خمسة عشر عاما؟
-نعم، وهنا في الميناء ذاته كانت لنا ذكريات جميلة، ففي أوائل الثمانينيات..................
فسكتت برهة ولم تكمل ما بدأت به، فكأن شيئا ً ما حدث فأوقظها ، فألتفت نحوي وقد تملكتها الدهشة وهي تقول:
-من أنت ؟
-أنا ..... أنا خالد .
-الوداع.
وقفت أشاهدها وهي تسحب خطاها، فلحقتها أستحلفها بالله العظيم أن تخبرني من هي وما قصتها ؟، فأخبرتني بعد إلحاح شديد بأنها تدعى أميرة، واكتفت بذلك، ومضت في حال سبيلها، فلعل من دعاها للرحيل هو توقف أنين منصور!.
ومنذ ذلك الحين والقدر يعقد معها لي موعد عصر كل أربعاء، لأراها كالجثة الواقفة بلباسها الأسود تنتظره.
ومع مرور الأيام أحببت رؤيتها، وكأنها أصبحت جزءا ً من حياتي، أقف بعيداً وأنظر لها وهي تنتظر رجوعه، وعلى مدى عام بأكمله وأنا على تلك الحال.
وفي تشرين الثاني من العام لمعرفتي بها، اختفت، فلا عاد أربعاء ولم تعد هي !
فقلت: لعلها أحست بي، وأرادت أن تغير جدولها الأربعائي، فأصبحت أحد الذين يرتادون الساحل بشكل يومي، لعلني أراها صدفة، لكنها لم تظهر أبدا ً.
فمرت الأيام والليالي عبث، وهي ترتع في إحدى زوايا عقلي.
وبعد مرور أربع سنوات على اختفائها وبالصدفة رأيتها، فقد كنت أجوب الساحل مع زميلي عبد الرحمن، وهو يحادثني:
-أتعبني المسير.
-أو ليس عندك القليل من الصبر حتى نصل للسيارة؟
-سأستريح حتى تأتي بالسيارة إلى هنا، فأنا إلى الآن لا أعلم لماذا تقف
بسيارتك دائما بالقرب من الميناء القديم، أخاف أن تكون أحد الذين مسهم جن الساحل، أو أنك ستصبح منصور الآخر.
تركت عبد الرحمن لأجلب السيارة، وأنا أفكر في كلامه ( أو أنك ستصبح منصور الآخر )، مطأطئا برأسي وأثير الرمل بقدمي، وما أن رفعت نظري حتى رأيتها في ذلك الموضع نفسه، كانت كالجثة واقفة شامخة تنتظر رجوعه.
اقتربت منها رويداً رويدا، فسمعت همهمة طفولية صادرة من أمامها:
-أمي هيا لنرحل، فأبي ينتظرنا هناك.
-ألا تسمعينه يئن؟
-من هو أمي؟
-منصور... خلف الموج.
-هل البحر يتألم مثلنا ويئن؟
-لا الكل يتألم سواه، هو وحده يئن.
-أماه أريد الذهاب إلى المنزل، فالجو بارد ستغيب
-إذا لنذهب.
-( يا الله يمه ).
فأشحت بوجهي عنها، وكأنني بفعلي هذا أقول للحياة: كفى.
فالبرغم من السنين المؤلمة والبعاد المر وبالرغم من الذكريات البالية، وبالرغم من زواجها، ألا أن للحب قداسة تعلمتها منها.
تجف ينابيع السنين وتبقين أميرة البحر والذكرى، وأميرة العشاق للأبد.
تمت
*أحدى القصص التي طرحت في مجموعتي القصصية (شبابيك المدينة).
وهناك على ضفاف الخليج موانئ أنهكها رحيل القدامى من المرتادين، وكأنها هي الأخرى تشيح بوجهها عن البحر الممزوج بالغدر منذ سالف العصر والأوان، كيلا تتذكر صوت النهام ، وترديد من على ظهر السفينة، وهم يودعون ذويهم على لقاء ٍ قريب، لا يعلمون متى بالضبط، فتتألم.
وكعادة الليل التشريني المشبع بالبرد والظلام، يأخذني إلى حيث كانت ويذكرني بها، فأقف إلى حدود الساحل، بالقرب من الميناء القديم، فتعج في متاهات عقلي ( خماسين ) ذكراها، زوبعة من الحلم والخيال، ولكنها دون أدنى شك ... حقيقة.
أدرت محرك سيارتي عصر يوم أربعاء بعيد، متجها ً إلى حيث اتفقت وزميلي عبد الرحمن ، للجلوس على الشاطئ الرملي للساحل الشرقي بالمدينة، والقريب من الميناء القديم الذي أغلق قبل خمسة عشر عام، بسبب اختفاء الشاب منصور، وذلك لأنه أصبح نذير شؤم على البحارة والصيادين، وقد قيل أنه أغلق لأن هناك جناً يتسللون من البحر للمدينة من خلاله، وكأنه منفذ لبث الرعب والوحشة عندما ينتصف ليل الشوارع والمساكن، حيث أنه أصبح مسكناً لما يدعونه البعض بـ ( جن الساحل ).
وقفت بالقرب من الرصيف البحري، في انتظار زميلي والساعة تشير إلى الخامسة مساء.
نزلت لأستند على مقدمة السيارة، ألهو بمسبحتي، وأشاهد المارة لعل فيهم من أعرفه، ومع أنني شديد الملاحظة، لم يلفت انتباهي سواها.
قد لاطف العليل من الهواء شعرها الكستنائي وأطراف ثوبها ( الشامواه ) الأسود، والموج تحت قدميها يروح ويغدو، وهي كالجثة الواقفة، كأنها تنتظر أحداً من البحر سيأتي.
غريبة تلك الفتاة، وقفتها تنم عن شيء ما في قلبها.
فأخذت أغني لأقطع استرسالي بها، وأفكر في زميلي الذي لا يتوانى أبدا ً عن مخالفة المواعيد خصوصا ً معي.
مرت حوالي ساعة وأنا أنتظر، وهي تنظر للبحر، ساعة كاملة لم تتحرك.
ترى ما بها ؟ أهي صورة حديثة للموت وقوفا ً، أم أنها عنجهية فتاة لم يعجبها الاسترخاء ألا وقوفاً.
الشمس على مشارف المغيب، وهي على مشارف المغيب، تريد الرحيل إلى حيث الغد، ولم يبق من الزمن سوى ربع ساعة لتضيء شرفات المدينة في حفل ٍ بهيج كالعادة، تستقبل به ليلها المخيف.
فتوجست في نفسي رغبة ملحة في الاقتراب منها وسؤالها، ما إذا كانت تنتظر أحدا ً، أو تريد المساعدة، ولكن كيف أكلمها و البحر خيالها، وعلى مدى ساعة لم تتحرك، ولم تشح بوجهها عن البحر.
إذاً سأحاول أن ألفت انتباهها.
اقتربت منها، وبطريقة ٍعفوية قلت:
-البحر جميل سيدتي، أليس كذلك؟
-جميل ويعجبني غدره الدائم!
-أوه، هل الغدر سمة تستحق الإعجاب؟
-نعم، إذا كان ليس له ما يميزه غيرها.
كانت تحادثني ولم تلتفت إلى، أهي صورة أخرى لعدم المبالاة، قلت:
-ولكنني أراك لأكثر من ساعة وأنتِ هكذا؟
-ألا ترى البحر وزرقته عندما ودعني ؟ هو نفس البحر وزرقته عندما يعود.
-أتنتظرين عودة شخص ما ؟
-نعم.
-منذ متى؟
-منذ أن رحل إلى حيث البعاد.
-وهل للبعاد مكان أو حد؟
-حدوده الشوق والانتظار.
-وهل أنتِ مشتاقة إلى هذا الحد؟
-وكيف لا أشتاق إلى روحي!
-وروحك .. ألا تشتاق إليك؟
-بلى، فكل يوم أربعاء وقلبي يناديه، فأسمعه يئن خلف الأمواج.
-أتسمعينه الآن يئن؟
-أسمعه كل يوم أربعاء قبيل غروب الشمس، ؟
-ولماذا الأربعاء عصرا ً؟
-وقت رحيله عني ... هنا.
-هنا، هنا!
-نعم هنا.
فأدركت أن في المسألة سرا ًما، فقلت:
-أتقصدين منصور الذي رحل قبل خمسة عشر عاما؟
-نعم، وهنا في الميناء ذاته كانت لنا ذكريات جميلة، ففي أوائل الثمانينيات..................
فسكتت برهة ولم تكمل ما بدأت به، فكأن شيئا ً ما حدث فأوقظها ، فألتفت نحوي وقد تملكتها الدهشة وهي تقول:
-من أنت ؟
-أنا ..... أنا خالد .
-الوداع.
وقفت أشاهدها وهي تسحب خطاها، فلحقتها أستحلفها بالله العظيم أن تخبرني من هي وما قصتها ؟، فأخبرتني بعد إلحاح شديد بأنها تدعى أميرة، واكتفت بذلك، ومضت في حال سبيلها، فلعل من دعاها للرحيل هو توقف أنين منصور!.
ومنذ ذلك الحين والقدر يعقد معها لي موعد عصر كل أربعاء، لأراها كالجثة الواقفة بلباسها الأسود تنتظره.
ومع مرور الأيام أحببت رؤيتها، وكأنها أصبحت جزءا ً من حياتي، أقف بعيداً وأنظر لها وهي تنتظر رجوعه، وعلى مدى عام بأكمله وأنا على تلك الحال.
وفي تشرين الثاني من العام لمعرفتي بها، اختفت، فلا عاد أربعاء ولم تعد هي !
فقلت: لعلها أحست بي، وأرادت أن تغير جدولها الأربعائي، فأصبحت أحد الذين يرتادون الساحل بشكل يومي، لعلني أراها صدفة، لكنها لم تظهر أبدا ً.
فمرت الأيام والليالي عبث، وهي ترتع في إحدى زوايا عقلي.
وبعد مرور أربع سنوات على اختفائها وبالصدفة رأيتها، فقد كنت أجوب الساحل مع زميلي عبد الرحمن، وهو يحادثني:
-أتعبني المسير.
-أو ليس عندك القليل من الصبر حتى نصل للسيارة؟
-سأستريح حتى تأتي بالسيارة إلى هنا، فأنا إلى الآن لا أعلم لماذا تقف
بسيارتك دائما بالقرب من الميناء القديم، أخاف أن تكون أحد الذين مسهم جن الساحل، أو أنك ستصبح منصور الآخر.
تركت عبد الرحمن لأجلب السيارة، وأنا أفكر في كلامه ( أو أنك ستصبح منصور الآخر )، مطأطئا برأسي وأثير الرمل بقدمي، وما أن رفعت نظري حتى رأيتها في ذلك الموضع نفسه، كانت كالجثة واقفة شامخة تنتظر رجوعه.
اقتربت منها رويداً رويدا، فسمعت همهمة طفولية صادرة من أمامها:
-أمي هيا لنرحل، فأبي ينتظرنا هناك.
-ألا تسمعينه يئن؟
-من هو أمي؟
-منصور... خلف الموج.
-هل البحر يتألم مثلنا ويئن؟
-لا الكل يتألم سواه، هو وحده يئن.
-أماه أريد الذهاب إلى المنزل، فالجو بارد ستغيب
-إذا لنذهب.
-( يا الله يمه ).
فأشحت بوجهي عنها، وكأنني بفعلي هذا أقول للحياة: كفى.
فالبرغم من السنين المؤلمة والبعاد المر وبالرغم من الذكريات البالية، وبالرغم من زواجها، ألا أن للحب قداسة تعلمتها منها.
تجف ينابيع السنين وتبقين أميرة البحر والذكرى، وأميرة العشاق للأبد.
تمت
*أحدى القصص التي طرحت في مجموعتي القصصية (شبابيك المدينة).
تعليق