هذا الموضوع اهداء لكافة أعضاء النداويه للاطلاع على المفهوم الصحيح في علم البلاغه والنقد
يعد كتاب أسرار البلاعة لعبد القاهر الجرجاني "المتوفى سنة 471 هـ" واحدا من اهم كتب النقد والبلاغة في العربية عبر عصورها المختلفة .
ويشكل الكتاب مع كتاب عبد القاهر الآخر "دلائل الإعجاز" نقطة تحوّل جذرية في نقدنا العربي.
إن المتتبع لحركة النقد العربي الحديث , ليكاد يدهش " وينفجر غيظا" إذ يرى ان معظم تنظيراتنا وآرائنا النقدية الحديثة مستوردة من الغرب..
فهذا يبشر بمنهج جديد اسمه البنيوية , وذاك ينادي بالأسلوبية وآخر بالتفكيكية .. بشكل يوحي بعجز ثقافتنا عن إيجاد نظريات نقدية خاصة بنا , أو على الأقل مستوحاة من تراثنا وثقافتنا .
ومن الطريف والمحزن في نفس الوقت ، أن كثيرا من الآراء والنظريات التي نادى بها النقاد الغربيون " كجاك دريدا ورولان بارت و من قبلهم دي سوسير..وغيرهم كان كثير من نقادنا القدماء قد توصلوا لها واثبتوها.
بالطبع لم تكن تلك الآراء والنظريات بنفس التوسع والعمق الذي نشاهده في كتابات النقادا الغربيين, لكنها كانت كافية لتخرجنا من ازمة نقدية حقيقية نعيشها الآن, سببها انقطاعنا عما توصل اليه نقادنا من آراء ونظريات .
ففي الوقت الذي يهلل فيه نقدنا المحدثون لمثل نظريات هؤلاءالغربيين. نجد انقطاعهم عن موروثنا الحضاري مخزيا , ومحزنا جدا
إن البحث في كتابي الجرجاني"أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز" يمكن ان يبين ما يحتويه الكتابين من أفكار ونظريات تصلح لتكوّن نظرية متكاملة في الفن الشعري.
لقد استطاع الجرجاني بعبقريته الفذة، أن يضع أسس نظرية جمالية في الفن الشعري تميِّز الشعر عن النثر بخصائص بنيوية أعمق من مجردالوزن والقافية، وتتعرض لأدق المسائل التي مازالت مدار شغل النقاد حتى يومنا هذا.
لن اعنى فيما اكتب بالبحث لوضع نظرية نقدية قوامها آراء الجرجاني فالأمر خارج عن حدود طافتي ويحتاج لوقت وبحث كبيرين, بل سأحاول دراسة أسرار البلاغة , بعلاقته بنظريات الشعر الفلسفية التي نجدها عند الفلاسفة المسلمين ممثلين بابن سينا والفارابي والتوحيدي.
وهؤلاء -ولا سيما ابن سينا والفارابي-كانوا متأثرين باراء ارسطو وناقلين لها.
1- اللفظ والمعنى
تقوم تنظيرات الجرجاني في مجموعها على اهمية ترتيب الألفاظ بشكلها النحوي الصحيح لإيصال المعنى إلى المتلقي علة قصديته مع الاهتمام الأكبر بتوظيف هذه الألفاظ لصالح الأثر النفسي لديه ، ولهذا السبب تظهر التقسمات البلاغية القائمة على أساس إدراك المعنى بالنسبة للمتلقي.
لهذا تاتي الألفاظ لدى الجرجاني محكومة بالمعاني ، فاختصاص التاليف في الألفاظ يأتي على أساس " المعاني المرتبة في النفس ، المنتطمة فيها على فضية العقل " واللغة بذلك تجري مجرى العلامات والسمات .
وبصرف النظر عن السياق الذي جاء فيه هذا الوصف للغة ، فقد قرر أرسطو في أول المنطق ان الألفاظ إنما هي رموز للدلالة على معانِِ , وهذا مما ينتقل الى ابن سينا , فعنده أن اللفظ والكلام علامة على المعنى .
"وبما ام الألفاظ علامات على على المعاني قينبغي ان تقع الاستعارة في موقعها وان تصيب غرضها ، وان يحسن الترتيب ليتكامل مع البيان حتى يصل المعنى الى القلب مع وصول اللفظ الى السمع ، كما ينبغي ان يسلم الكلام من الحشو غير المفيد ، والفضل الذي كالزيادة في التحديد ، ومن التقصير الذي يفتقر معه السامع إلى تطلب زيادة بثيت في نفس المتكلم , فلم يدل عليها بلفظها الخاص"
وهذا مما يرد عند أرسطو بشكل اخر إذ يقول " ويجب ان نستعمل المجازات والصفات الملائمة ، ويتحقق هذا بالتزام المناسبة السليمة"
ويقرّ ابن سينا بان التغيير(المجاز والاستعارة ) يستعمل للدلالة على المعنى ، فإنه "إن لم يدل على شيء ، لم يكن مغنيا غناء اللفظ" , كما أن البصراء-عنده- يحبون ما هو حائل اللفظ لطيف المعنى ، وليس بمفرط في الاستعارة
لم ينقصل الجرجاني في تنظيره عن الاصول الأخلاقية في حال أن لا تخالف التفكير المنطقي الذي ينطلق منه ، فهو في اتخاذه المعنى منطلقا له يمهد للأساس الذي سيثبت فيه إعجاز القرآن الكريم البلاغي ولهذا سنلاحظ انه يؤسس لنظرية متكاملة مع تنظيرات الفلاسفة المسلمين .
فالطراغوديا "التي هي محاكاة فعل كامل القضيلة تتجه من المعاني المتخيلة والوجيهة ذات الرونق ثم يبنى عليها اللحن والقول .
كما ان التوحيدي اثناء بحثه عن طبيعة "الجميل" يشرح تصوره لتجليه من خلال علاقة الشكل بالمضمون قهو يرى ان الشيء لا يتحذ لبوسه الشكلي إلا على نحو يوافق مضمونه ومادته ، فتشكل الإنسان الحارجي لم يكن عبثا إنما بحسب قبول مادته الروحية لهذا الشكل ،
قالشكل عند التوحيدي يتحدد تبعا للمضمون .
وهذه الفكرة عند التوحيدي كانت متصلة بنظرته للنص الادبي ، قالعقل يطلب المعنى ، ولذلك لا حظّ للفظ عنده وغن كان متشوقا معشوقا ، والدليل على ان المعنى مطلوب النفس دون اللفظ الموشح بالوزن المحمول على الضرورة "أن المعنى متى صوّر بالسانح الوخاطر وتوفى الحكم لم يبل بما يقوّيه من اللفظ الذي هو كاللباس والمعرض والإناء والظرق"
ولننظر إلى تحليل الجرجاني للصور في أسرار البلاغة فهو يركز" على قوة اللفظ لصالح المعنى " ويقسم الاستعارة على أساس الإفادة إلى استعارة مفيدة واخرى غير مفيدة .
قاستعارة "المشفر" للشفة مثلا لا تخدم المعنى ولذلك فإن مثل هذه الاستعارة تعيب النص الادبي ، وقد تخرج مثل هذه الاستعارة الى وجه الصحة عندما تخدم المعنى في مثل قول الشاعر :
فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي ولكنّ زنجيا غليظ المشافر .
يعلق الجرجاني قائلا " فهذا يتضمن معنى قولك " ولكن زنجيا كأنه جمل لا يعرفني ولا يهتدي لشرفي"
فالمشفر هو شفة الجمل .. ولذا فتوظيفه هنا كان في صالح المعنى , إذ اسهم في تاكيد دلالته الذي هو "هجاء"
بينما قد يكون استخدام نفس اللفظ سيئا مخلا بالمعنى , لو أردنا الغزل..كان نشبه شفة فتاة بمشفر الجمل.
هذا المنطلق لدى الجرجاني قاده إلى الاختلاف مع أرسطو _وبالتالي كل من نقل نصوصه- في غرابة اللغة .
فاستعمال اللفظ الدارج عند ارسطو يقوده إلى السقوط ، كما ان استخدام اللفظ الغريب يبعد القول عن الابتذال وقد يؤدي به إلى الإلغاز والغموض.
ولهذا يرى ارسطو أن اللغة يجب ان تكون مزيجا من الألفاظ الغريبة والواضحة . وعند ابن سينا "اللغة تستعمل للللإغراب والتحيير والرمز" وذلك مما لا يقبل عند الجرجاني فالمعنى لديه هو الأساس الذي يقوم عليه اللفظ، وهذا مما ينعكس ما ينعكس على طبيعة اختيار اللفظ عنده , إذ ينبغي ان تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم , ويتداولونه في زمانهم ، ولا يكون وحشيا غريبا او عاميا سخيفا تسخفه بإزالته عن موضوع اللغة ، وإخراجه عما فرضته من حكم "
(ينبغي، إذا فضَّلنا بيتاً على بيت من أجل معناه، أن لا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام" . إذ "إن سبيلَ الكلام هو سبيل التصوير والصياغة، وإن سبيلَ المعنى الذي يعبَّر عنه هو سبيلُ الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه – كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أنه محال، إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع عليه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال، إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرَّد معناه" كما أنه "لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر، فتؤديه بعبارة أخرى؛ إذ إنه إذا تغير النظم فلا بد حينئذ من أن يتغير المعنى. وإن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتِّساع ومجاز، وحتى لا يُراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعَت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أُخَر" )
دلائل الأعجاز .
التقسيمات البلاغية عند الجرجاني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الرغم من اتباع الجرجاني منهجا استقرائيا في تصديه للبيان، إلا أن ذلك لا يعني اغتماده على الاستقراء دون غيره ، فقد فقد استمد الجرجاني بخثه في البيان من عدة مصادر منها العربي الخالص ومنها الفلسفي المنقول عن فلاسفة اليونان.
فاستطاع عبد القاهر بذلك الاستفادة من مختلف معارف عصره .. وتقديم نظريات غاية في الاهمية .
وفي هذا المقام سأعتمد نصوص الفلاسفة المسلمين دون نصوص أرسطو وذلك لان نص أرسطو بترجمته الحديثة لا يفيد في ماهية المصطلح .
1- الاستعارة :
لا تخلو الاستعارة عن الجرجاني من ان تكون اسما أو فعلا فإن كانت اسما فإنه يقع مستعارا على قسمين :
أحدهما ان تنقله عن مسماه الأصلي إلى شيء آخر ثابت ومعلوم فتجربه عليه وتجعله متناولا له تناول الصفة-مثلا- للموصوف.
وثانيهما : ان يؤخذ الاسم عن حقيقته ويوضع موضعا لا يبين فيه شيء ويشار إليه ."
هذا الكلام , يتفق مع ما قال به ابن سينا , الذي يقر أن الاستعارة لا تكون في الأفعال والأوصاف فقط. بل قد تكون في المسميات . كتاب " المنطق من الشفاء "
وهذا مما لا يختلف عن تقسيم الجرجاني في شكله العام , لكنه الجرجاني تناوله تناولا موسعا.
ويتحدث الجرجاني عن مراتب المستعار والمستعار له ، إذ يجب ان يكون "من ضروب الاستعارة " :
أن يرى معنى الكلمة المستعارة موجودا في المستعار له من حيث عموم جنسه على الحقيقة ، إلأ أن لذلك الحنس خصائص ومراتب في الفضيلة والنقص ، والقوة والضعف , فانك تستعير لفظ الأفضل لما هو دونه ومثاله استعارة الطيران لغير ذي الجناح "
ويتحدث ابن سينا-ناقلا عن ارسطو- في هذا الصدد فيقول :
" وينبغي للخطيب ، إذا اراد ان يستعير ويغيّر حيث يريد التحسين , أن ياخذ الاستعارة والتغيير من جنس مناسب لذلك الجنس , محاكِِ له غير بعيد منه، ولا خارج عنه فإنه إذا أراد أن يخقّر إنسانا ويقبحّه فيجب لا محالة أن لا يحاكيه بشيء بعيد من جنس ما يفعله ، بل يقول، إن أراد ان يقبّح ملتمسا ويخقّره: إن فلانا ليتكدى . وإذا أراد ان يفخم أمر حريز ، لم يبعد بالمحاكاة ، بل حاكاه بانه حذق بما يتعاطاه .
لقد كان استيعاب الجرجاني- لهذه الفكرة التي اوردها ابن سينا - استيعابا عميقا ولم ينفها في إطار الخطاب ، بل طبقها على الشعر وخرج عنها من خلال منهجه الاستقرائي التحليلي الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة ، يقول :
" ثم إنهم إذا وجدوا في الشيء في بعض الاحوال شبها من حركة غير جنسه استعاروا له العبارة من ذلك الجنس فقالوا في غير ذي الجناح طار كقوله:-
"وطرت بمنصلي في يعملات "
2- بين الاستعارة والتشسبيه :
يتحث الجرجاني عن الفرق بين الاستعارة والتشبيه فيقول -موافقا القاضي الجرجاني في الوساطة-*
: إن مثل قولنا ( زيد أسد ) ليس استعارة وذلك مما يندرج تحت التشبيه فقد اجرى اسم الأسد على زيد ، أما في الاستعارة فقد" عزلت الاسم الأصلي عنه وطرحته وجعلته كان ليس باسم له ، وجعلت الثاني هو الواقع عليه والمتناول له ، فصار قصدك التشبيه أمرا مطويا في نفسك ، مكنونا في ضميرك وصار في ظاهر الحال وصورة الكلام وقضيته، كانه الذي وضع له الاسم في اللغة وتصور ان تعلقهُ
الوهم كذلك"
ويقول ابن سينا " بان التشبيه يجري مجرى
الاستعارة ، إلا ان الاستعارة تجعل الشيء غيره ، والتشبيه يحكم عليه بأنه كغيره, لا غيره نفسه.
وهذه الفكرة لا تنفصل عن فكرة الجرجاني إلا ان الجرجاني قد تناولها في سياق التفريق بين التشبيه البليغ-كما سُميّ فيما بعد- والاستعارة كما انه تناولها من خلال التفصيل والإقناع الذي يتبعه في بحثه كله .
يتبع إن شاء الله
ــــ
* يخطيء بعضنا ، فلا يميز بين القاضي الجرجاني " علي بن عبد العزيز" صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه ." متوفى سنة 392 هـ"
وبين الإمام عبد القاهر الجرجاني " ابو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن-الذي نحن بصدد مناقشة بعض أفكاره في كتاب أسرار البلاغة .
(منقول)
يعد كتاب أسرار البلاعة لعبد القاهر الجرجاني "المتوفى سنة 471 هـ" واحدا من اهم كتب النقد والبلاغة في العربية عبر عصورها المختلفة .
ويشكل الكتاب مع كتاب عبد القاهر الآخر "دلائل الإعجاز" نقطة تحوّل جذرية في نقدنا العربي.
إن المتتبع لحركة النقد العربي الحديث , ليكاد يدهش " وينفجر غيظا" إذ يرى ان معظم تنظيراتنا وآرائنا النقدية الحديثة مستوردة من الغرب..
فهذا يبشر بمنهج جديد اسمه البنيوية , وذاك ينادي بالأسلوبية وآخر بالتفكيكية .. بشكل يوحي بعجز ثقافتنا عن إيجاد نظريات نقدية خاصة بنا , أو على الأقل مستوحاة من تراثنا وثقافتنا .
ومن الطريف والمحزن في نفس الوقت ، أن كثيرا من الآراء والنظريات التي نادى بها النقاد الغربيون " كجاك دريدا ورولان بارت و من قبلهم دي سوسير..وغيرهم كان كثير من نقادنا القدماء قد توصلوا لها واثبتوها.
بالطبع لم تكن تلك الآراء والنظريات بنفس التوسع والعمق الذي نشاهده في كتابات النقادا الغربيين, لكنها كانت كافية لتخرجنا من ازمة نقدية حقيقية نعيشها الآن, سببها انقطاعنا عما توصل اليه نقادنا من آراء ونظريات .
ففي الوقت الذي يهلل فيه نقدنا المحدثون لمثل نظريات هؤلاءالغربيين. نجد انقطاعهم عن موروثنا الحضاري مخزيا , ومحزنا جدا
إن البحث في كتابي الجرجاني"أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز" يمكن ان يبين ما يحتويه الكتابين من أفكار ونظريات تصلح لتكوّن نظرية متكاملة في الفن الشعري.
لقد استطاع الجرجاني بعبقريته الفذة، أن يضع أسس نظرية جمالية في الفن الشعري تميِّز الشعر عن النثر بخصائص بنيوية أعمق من مجردالوزن والقافية، وتتعرض لأدق المسائل التي مازالت مدار شغل النقاد حتى يومنا هذا.
لن اعنى فيما اكتب بالبحث لوضع نظرية نقدية قوامها آراء الجرجاني فالأمر خارج عن حدود طافتي ويحتاج لوقت وبحث كبيرين, بل سأحاول دراسة أسرار البلاغة , بعلاقته بنظريات الشعر الفلسفية التي نجدها عند الفلاسفة المسلمين ممثلين بابن سينا والفارابي والتوحيدي.
وهؤلاء -ولا سيما ابن سينا والفارابي-كانوا متأثرين باراء ارسطو وناقلين لها.
1- اللفظ والمعنى
تقوم تنظيرات الجرجاني في مجموعها على اهمية ترتيب الألفاظ بشكلها النحوي الصحيح لإيصال المعنى إلى المتلقي علة قصديته مع الاهتمام الأكبر بتوظيف هذه الألفاظ لصالح الأثر النفسي لديه ، ولهذا السبب تظهر التقسمات البلاغية القائمة على أساس إدراك المعنى بالنسبة للمتلقي.
لهذا تاتي الألفاظ لدى الجرجاني محكومة بالمعاني ، فاختصاص التاليف في الألفاظ يأتي على أساس " المعاني المرتبة في النفس ، المنتطمة فيها على فضية العقل " واللغة بذلك تجري مجرى العلامات والسمات .
وبصرف النظر عن السياق الذي جاء فيه هذا الوصف للغة ، فقد قرر أرسطو في أول المنطق ان الألفاظ إنما هي رموز للدلالة على معانِِ , وهذا مما ينتقل الى ابن سينا , فعنده أن اللفظ والكلام علامة على المعنى .
"وبما ام الألفاظ علامات على على المعاني قينبغي ان تقع الاستعارة في موقعها وان تصيب غرضها ، وان يحسن الترتيب ليتكامل مع البيان حتى يصل المعنى الى القلب مع وصول اللفظ الى السمع ، كما ينبغي ان يسلم الكلام من الحشو غير المفيد ، والفضل الذي كالزيادة في التحديد ، ومن التقصير الذي يفتقر معه السامع إلى تطلب زيادة بثيت في نفس المتكلم , فلم يدل عليها بلفظها الخاص"
وهذا مما يرد عند أرسطو بشكل اخر إذ يقول " ويجب ان نستعمل المجازات والصفات الملائمة ، ويتحقق هذا بالتزام المناسبة السليمة"
ويقرّ ابن سينا بان التغيير(المجاز والاستعارة ) يستعمل للدلالة على المعنى ، فإنه "إن لم يدل على شيء ، لم يكن مغنيا غناء اللفظ" , كما أن البصراء-عنده- يحبون ما هو حائل اللفظ لطيف المعنى ، وليس بمفرط في الاستعارة
لم ينقصل الجرجاني في تنظيره عن الاصول الأخلاقية في حال أن لا تخالف التفكير المنطقي الذي ينطلق منه ، فهو في اتخاذه المعنى منطلقا له يمهد للأساس الذي سيثبت فيه إعجاز القرآن الكريم البلاغي ولهذا سنلاحظ انه يؤسس لنظرية متكاملة مع تنظيرات الفلاسفة المسلمين .
فالطراغوديا "التي هي محاكاة فعل كامل القضيلة تتجه من المعاني المتخيلة والوجيهة ذات الرونق ثم يبنى عليها اللحن والقول .
كما ان التوحيدي اثناء بحثه عن طبيعة "الجميل" يشرح تصوره لتجليه من خلال علاقة الشكل بالمضمون قهو يرى ان الشيء لا يتحذ لبوسه الشكلي إلا على نحو يوافق مضمونه ومادته ، فتشكل الإنسان الحارجي لم يكن عبثا إنما بحسب قبول مادته الروحية لهذا الشكل ،
قالشكل عند التوحيدي يتحدد تبعا للمضمون .
وهذه الفكرة عند التوحيدي كانت متصلة بنظرته للنص الادبي ، قالعقل يطلب المعنى ، ولذلك لا حظّ للفظ عنده وغن كان متشوقا معشوقا ، والدليل على ان المعنى مطلوب النفس دون اللفظ الموشح بالوزن المحمول على الضرورة "أن المعنى متى صوّر بالسانح الوخاطر وتوفى الحكم لم يبل بما يقوّيه من اللفظ الذي هو كاللباس والمعرض والإناء والظرق"
ولننظر إلى تحليل الجرجاني للصور في أسرار البلاغة فهو يركز" على قوة اللفظ لصالح المعنى " ويقسم الاستعارة على أساس الإفادة إلى استعارة مفيدة واخرى غير مفيدة .
قاستعارة "المشفر" للشفة مثلا لا تخدم المعنى ولذلك فإن مثل هذه الاستعارة تعيب النص الادبي ، وقد تخرج مثل هذه الاستعارة الى وجه الصحة عندما تخدم المعنى في مثل قول الشاعر :
فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي ولكنّ زنجيا غليظ المشافر .
يعلق الجرجاني قائلا " فهذا يتضمن معنى قولك " ولكن زنجيا كأنه جمل لا يعرفني ولا يهتدي لشرفي"
فالمشفر هو شفة الجمل .. ولذا فتوظيفه هنا كان في صالح المعنى , إذ اسهم في تاكيد دلالته الذي هو "هجاء"
بينما قد يكون استخدام نفس اللفظ سيئا مخلا بالمعنى , لو أردنا الغزل..كان نشبه شفة فتاة بمشفر الجمل.
هذا المنطلق لدى الجرجاني قاده إلى الاختلاف مع أرسطو _وبالتالي كل من نقل نصوصه- في غرابة اللغة .
فاستعمال اللفظ الدارج عند ارسطو يقوده إلى السقوط ، كما ان استخدام اللفظ الغريب يبعد القول عن الابتذال وقد يؤدي به إلى الإلغاز والغموض.
ولهذا يرى ارسطو أن اللغة يجب ان تكون مزيجا من الألفاظ الغريبة والواضحة . وعند ابن سينا "اللغة تستعمل للللإغراب والتحيير والرمز" وذلك مما لا يقبل عند الجرجاني فالمعنى لديه هو الأساس الذي يقوم عليه اللفظ، وهذا مما ينعكس ما ينعكس على طبيعة اختيار اللفظ عنده , إذ ينبغي ان تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم , ويتداولونه في زمانهم ، ولا يكون وحشيا غريبا او عاميا سخيفا تسخفه بإزالته عن موضوع اللغة ، وإخراجه عما فرضته من حكم "
(ينبغي، إذا فضَّلنا بيتاً على بيت من أجل معناه، أن لا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام" . إذ "إن سبيلَ الكلام هو سبيل التصوير والصياغة، وإن سبيلَ المعنى الذي يعبَّر عنه هو سبيلُ الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه – كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أنه محال، إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع عليه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال، إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرَّد معناه" كما أنه "لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر، فتؤديه بعبارة أخرى؛ إذ إنه إذا تغير النظم فلا بد حينئذ من أن يتغير المعنى. وإن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتِّساع ومجاز، وحتى لا يُراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعَت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أُخَر" )
دلائل الأعجاز .
التقسيمات البلاغية عند الجرجاني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الرغم من اتباع الجرجاني منهجا استقرائيا في تصديه للبيان، إلا أن ذلك لا يعني اغتماده على الاستقراء دون غيره ، فقد فقد استمد الجرجاني بخثه في البيان من عدة مصادر منها العربي الخالص ومنها الفلسفي المنقول عن فلاسفة اليونان.
فاستطاع عبد القاهر بذلك الاستفادة من مختلف معارف عصره .. وتقديم نظريات غاية في الاهمية .
وفي هذا المقام سأعتمد نصوص الفلاسفة المسلمين دون نصوص أرسطو وذلك لان نص أرسطو بترجمته الحديثة لا يفيد في ماهية المصطلح .
1- الاستعارة :
لا تخلو الاستعارة عن الجرجاني من ان تكون اسما أو فعلا فإن كانت اسما فإنه يقع مستعارا على قسمين :
أحدهما ان تنقله عن مسماه الأصلي إلى شيء آخر ثابت ومعلوم فتجربه عليه وتجعله متناولا له تناول الصفة-مثلا- للموصوف.
وثانيهما : ان يؤخذ الاسم عن حقيقته ويوضع موضعا لا يبين فيه شيء ويشار إليه ."
هذا الكلام , يتفق مع ما قال به ابن سينا , الذي يقر أن الاستعارة لا تكون في الأفعال والأوصاف فقط. بل قد تكون في المسميات . كتاب " المنطق من الشفاء "
وهذا مما لا يختلف عن تقسيم الجرجاني في شكله العام , لكنه الجرجاني تناوله تناولا موسعا.
ويتحدث الجرجاني عن مراتب المستعار والمستعار له ، إذ يجب ان يكون "من ضروب الاستعارة " :
أن يرى معنى الكلمة المستعارة موجودا في المستعار له من حيث عموم جنسه على الحقيقة ، إلأ أن لذلك الحنس خصائص ومراتب في الفضيلة والنقص ، والقوة والضعف , فانك تستعير لفظ الأفضل لما هو دونه ومثاله استعارة الطيران لغير ذي الجناح "
ويتحدث ابن سينا-ناقلا عن ارسطو- في هذا الصدد فيقول :
" وينبغي للخطيب ، إذا اراد ان يستعير ويغيّر حيث يريد التحسين , أن ياخذ الاستعارة والتغيير من جنس مناسب لذلك الجنس , محاكِِ له غير بعيد منه، ولا خارج عنه فإنه إذا أراد أن يخقّر إنسانا ويقبحّه فيجب لا محالة أن لا يحاكيه بشيء بعيد من جنس ما يفعله ، بل يقول، إن أراد ان يقبّح ملتمسا ويخقّره: إن فلانا ليتكدى . وإذا أراد ان يفخم أمر حريز ، لم يبعد بالمحاكاة ، بل حاكاه بانه حذق بما يتعاطاه .
لقد كان استيعاب الجرجاني- لهذه الفكرة التي اوردها ابن سينا - استيعابا عميقا ولم ينفها في إطار الخطاب ، بل طبقها على الشعر وخرج عنها من خلال منهجه الاستقرائي التحليلي الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة ، يقول :
" ثم إنهم إذا وجدوا في الشيء في بعض الاحوال شبها من حركة غير جنسه استعاروا له العبارة من ذلك الجنس فقالوا في غير ذي الجناح طار كقوله:-
"وطرت بمنصلي في يعملات "
2- بين الاستعارة والتشسبيه :
يتحث الجرجاني عن الفرق بين الاستعارة والتشبيه فيقول -موافقا القاضي الجرجاني في الوساطة-*
: إن مثل قولنا ( زيد أسد ) ليس استعارة وذلك مما يندرج تحت التشبيه فقد اجرى اسم الأسد على زيد ، أما في الاستعارة فقد" عزلت الاسم الأصلي عنه وطرحته وجعلته كان ليس باسم له ، وجعلت الثاني هو الواقع عليه والمتناول له ، فصار قصدك التشبيه أمرا مطويا في نفسك ، مكنونا في ضميرك وصار في ظاهر الحال وصورة الكلام وقضيته، كانه الذي وضع له الاسم في اللغة وتصور ان تعلقهُ
الوهم كذلك"
ويقول ابن سينا " بان التشبيه يجري مجرى
الاستعارة ، إلا ان الاستعارة تجعل الشيء غيره ، والتشبيه يحكم عليه بأنه كغيره, لا غيره نفسه.
وهذه الفكرة لا تنفصل عن فكرة الجرجاني إلا ان الجرجاني قد تناولها في سياق التفريق بين التشبيه البليغ-كما سُميّ فيما بعد- والاستعارة كما انه تناولها من خلال التفصيل والإقناع الذي يتبعه في بحثه كله .
يتبع إن شاء الله
ــــ
* يخطيء بعضنا ، فلا يميز بين القاضي الجرجاني " علي بن عبد العزيز" صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه ." متوفى سنة 392 هـ"
وبين الإمام عبد القاهر الجرجاني " ابو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن-الذي نحن بصدد مناقشة بعض أفكاره في كتاب أسرار البلاغة .
(منقول)
تعليق