[align=center]جريدة الخليج الإماراتية
سامح كعوش
أشعاره تفصح عن مرحلة جديدة للشعر الشعبي
خالد الدوسري يحلق في آفاق أرحب
غلاف المجموعة
إن للقراءة في الثقافة الشعبية وجهين، الأول يمثل الماضي بينما يرتبط الثاني بالمستقبل، والأول شفوي بمجمله يعتمد العامية لغةً والدلالات المحلية للألفاظ حقلاً مفهومياً، بينما يقول الثاني بلغة المكان مكتوباً على الورق بين القصيدة النبطية والشعبية المبسطة اللفظ والمفردة.
والوجه الأول ارتجالي أما الوجه الثاني فجمالي متقن الصنعة، والأول موضوع حكاية ورواية وجمع استرجاعي يحتمل الكثير من الخطأ لبعد المسافة الزمنية وطول المدة وغياب الأثر، بينما يرسخ الثاني في الذاكرة القريبة الحاضرة، بل ويتعداها في كثير من الأحيان إلى المستقبل ليستشرف ما يأتي من تجارب وكتابات عن المكان الإماراتي وإنسانه.
تكون القراءة في الثقافة والشعر الشعبي المختزن في الذاكرة الشعبية “الماضوية” أحياناً استعراضاً لأدوات القارئ الباحث المتمكن من نقد الشعر والبحث فيه بأدوات تفكيكية وبنيوية وجمالية لا تتفق في الغالب مع أدنى متطلبات البحث في الأدب المحلي الإماراتي الشعبي الذي يحتفظ بخصوصيته المكانية والزمانية في حيز الجغرافيا الضيقة خارج المنجز الشعري العربي الفصيح، أو العالمي المعروف، وتكون في كثير من الأحيان إرضاءً لواجب مهني ضيق الإمكانات والأفق، يقوم به بعض الباحثين في الموروث الشعبي كما يحلو لهم أن يكتبوا قصيدة لا تنتمي لهذا الموروث، فيعودون إليه كي يتعلموا منه ويلصقوا بأنفسهم عبره صفات البحث في الشعر، وبالتالي أحقية القول الشعري نفسه.
وتكون القراءة أحياناً كتابةً على الكتابة نفسها، وبينهما وحدة الشعر والشعور وسحر الحضور للفنية المتمكنة من أدواتها، وفي ذلك يكمن الإبداع وتتضح الرؤى الشعرية الجمالية في التكامل والاكتمال. وتكون القراءة كذلك موقف بحث شعري وإنساني في الطلل الدارس والذكرى الغائرة في الذاكرة، فلا هي تفي الباحث حق بحثه عبر البوح عما تسرّه وتخفيه ولا تقوله، ولا يفيها الباحث حقها في امتلاكه أدواتها الصعبة المختلفة تماماً عن أدوات النقد المعتادة ومفاهيم مدارسه التقليدية، وفي الحالين يلتقيان عند “شيء ما”، خفيّ يكاد لا يظهر بملامحه الواضحة، وإن ظهرت إشاراته في ما تبقى في المكان من أثر وفي ذاكرة الناس من أطياف ومحكيات شعبية موروثة.
وتكون الكتابة في الشعر الشعبي في الإمارات على الحال ذاته، إذ إنها تحتفي بالجديد الغريب المكتوب بشكل حداثي لا يقترب من موروثه إلا في القيمة والتقدير للمضمون القيمي نفسه، أما في الشكل والمعنى مفردةً ولغةً وعلاقات بلاغة وبيان ومجاز ودلالاتٍ فهي تقترب بل تعيش في حداثتها الخاصة، بنت المكان، وتستعير كل إمكانات العلوم والفلسفة والحياة الجديدة بكل قيمها وملحقاتها.
والشاعر الإماراتي خالد الدوسري يكتب كلّ هذا، ويعيش المكان بواقع مغاير أجمل، فهو لا يستعمل المفردات ذاتها، ولا يقرأ في الكتاب الذي قرأه الشعراء الشعبيون نفسه، فجاءت كتابته بلغة مختلفة ومخالفة أحياناً، تنقل المفردة الشعرية الشعبية في الإمارات إلى آفاق رحبة غريبة، بل وغرائبية.
هذا الشاعر يقف في مجموعته الشعرية الجديدة “نهاية السديم” أعلى “منبر” الشعر الشعبي على الطريقة التقليدية في نمطية التعبير عن “أنا” الجماعة، بادئاً بالقول في الشعور الجمعي للشعب وعلاقته بالرمز القائد، واستعادته مسيرة هذا الرمز ليدخله في الذاكرة الشعبية كمحكي ومكتوب غائب، يحضر بالكلمة ويُستنطق بالشعر، وتُروى سيرته على مسامع الدهر كأنه الأسطورة الحية مداه، إذ يُحضر الشاعر خالد الدوسري الشعر الشعبي إلى موقع الاحتفالية الكبرى الأقرب إلى القلب في مصابه في رحيل الأحبة الكبار، بذكرى الأب المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، يقول:
“في غيبتك شمس البلد ترفض شروق
وغاب القمر يا شيخ من حزن ناسك
صحرا قفر تضمى وتضمى بها النوق
جناتٍ تحوّل بنظرة قياسك
زايد كتبت اسمك على الليل ببروق
بين الجدي وسهيل لا شفت راسك
مكسور بيت الشعر لو فيك مطروق
كل القوافي تنحني لجل باسك”.
الحزن
هنا، إعلان للشاعر يعبر من خلاله ببراعة عن رحيل قائد ووالد كبير، كالمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وهنا إعلانه الصفات العظيمة لهذا الإنسان الكبير في حضوره، والأكبر والأبعد أثراً وحضوراً في غيابه، فشمس البلد ترفض الشروق ويغيب القمر، في علاقة مجازية تجمع دلالات الغياب والرفض للشروق، بدلالات حزن الناس لا حزن الأشياء نفسها، وفي ذلك “التدوير” المنطقي لسببية الحزن وجدلية الارتقاء به من الكائن الإنساني إلى حزن الحجر والقمر والشمس.
وتكمن استحالة الشعر عن وصف حالة الفقد، يتمثلها الشاعر الدوسري ببلاغة مستقبلية ترى في سباق الشوق إلى الراحل ببعد نظر إلى المستقبل لترى فيه أثراً باقياً أبداً، وإرثاً عظيماً خالداً، يحوّل الصحارى المقفرة الى جناتٍ خضراء وغابات نخيل وخير وجناتٍ غنّاء، كأن الشعر عن زايد يتلوّن بالأخضر الذي كان يحبه، وعاش حياته راعياً له ومحافظاً عليه، لينكتب اسمه في سجل الخالدين، بالضياء الساطع على جبين الليل، وليصل الشاعر في حقيقة أمره إلى غاية العجز عن الكلام في حضرة الفقد الأكبر، والحضور الأكبر للراحل، وبين الموقفين يقف خالد الدوسري صادحاً بقول الشعر أن “مكسور بيت الشعر لو فيك مطروق/ كلّ القوافي تنحني لجل باسك”.
وتعبّر قصائد “شمس الأرض” و”زلزال الفضا” عن الموقف الإنساني ذاته لرحيل الأب والوالد المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، زايد الخير، فيكتب الشاعر الدوسري في الأولى ظلاماً خيّم على الكون وأطاح بشمس سمائه فاهتزت الأرض لهوله، يقول:
“حسبي الله حسبي الله يوم طاحت شمس يومي
هزت الأرض وتوارى كلِّ نورٍ عن مكاني
وعمّت الظلما الشوارع وابتدى ليل الهمومي
وذبلت ورود الحدايق وانطفا نور المباني
وطاحت دموع اليتيم وشقت العذرا الهدومي
والبلد تلطم خدودٍ داسها ذرب اليماني”.
ويرثي الشاعر الفقيد، كأنه يكتب في الراحل ذاكرة جمعية لا يمكن لها أن تغيب أو تخفي قولها، في إزاحة للماضوية واستبدالها بمستقبلية تستشرف غداً كأنه الآن، وهو في ذلك تأكيد لمقولة إن الثقافة الشعبية تكتب الآن شكلها الجديد، وتنزاح عن لغتها القديمة حتى في الموضوعات الشعرية ذات الصبغة الكلاسيكية النمطية كالمديح والهجاء والرثاء والوصف والحنين، ففي قصيدة “زلزال الفضا” يكتب الدوسري مفردات الثبات “العرش” و”النظم” لينتقل بقارئه إلى حالة التحوّل والتلاشي في مفردات “هزيت”، “يتكسر زجاج السماوات”، و”يتلاشى غبار المجرات”، مشيراً إلى القصيدة كزلزال يهز شعور كثير من الشعراء الشعبيين يهجرون حالات النمط والمحاكاة لمن تقدّم عليهم من شعراء، ولكن قلةً منهم يكتبون ما يكتبه خالد الدوسري من علاقات الربط الشعري بلغة حداثة تستمد من عصرها كلّ ما فيه، فتحكي الرثاء بالمديح، مقرونين بمفردات “القطب”، “شعاع”، “كوكب”، “محيط”، “جينات” كما في قوله:
“لو يشتعل جودك تجف المحيطات
كم دمع محتاج مسحته بكمّك
من كثر طيبك طال عشقك جمادات
ينبت لكوكب الأرض صدر ويضمك
وأنت الشهامة والكرم فيك جينات
ما هي غريبة، طبع “زايد” بدمّك”.
التحول
عن هذا التحول في الكتابة الشعبية وثقافتها في الإمارات، يختصر الدوسري القول، ويكتب “النهاية” التي يبدأ بها الشعر المغاير في الإمارات، وبخاصة في مساحة تعبير شعرائها الشعبيين في الحكاية والمقولة، التي تكتب نهاية السديم، بلغة هذيانية منفعلة، يقول الشاعر في قصيدته “نهاية السديم”:
“انتهى
على ما اشتهى
سحري على عرش الشعر ارتقى
ملل
شعر يطفو على سطح البلل
ما دام المحيط صدري
والسما عيني”.
هي لغة التحوّل الحاسم، كما هو التغير الحاصل في المكان الأقوى من الذاكرة، موسوماً بأشكال وجوه جديدة، وملامح حياة أخرى جديدة هي أيضاً، فلا لغة تستطيع أن تقارب هذه الملامح غير لغة “دوسرية” تبتكر صوراً جديدة غريبة كل الغرابة، ومتمكنةً كلّ التمكّن والاستطاعة، رغم قصر عمرها الافتراضي في التجربة والشعر، فهي تستعمل مفردات وعبارات من مثل العربات الذهبية التي تمر من فوق الأنا في القصيدة، ويعبر تحتها قوس قزح، أو كأن يرتمي فوق صدر الشعر السحاب الطري على شفا جرف الحياة، حينها يصرخ الشاعر “يدٌ تمتد نحوي/ يتشبث بها موتي/ وتهوي الريح بالطير الخاطف/ في مكان سحيق”.
وهي لغةٌ لا تقرر شاعرية الدوسري دون سواه فهي لغة مفتوحة على الكل تنتج حقولها المعجمية الخاصة بها، تقول في الأصدقاء ما قاله الأصدقاء في الشاعر، “كيف، كيف/ في الشتاء والصيف/ الأوغاد يأكلون أجساد الأجداد/ فليقتلونا بنا/ يا رفاق الشقاق والإيمان/ رغبتي طفل أعمى/ يتحسس وجه أمه/ تراب الحب/ بلا ملامح/ نازح”، وهي كتابةٌ ناطقة باللسان الكلي التعبير، عن حاجات الحياة نفسها، في المكان المختلف العمران، وفي جنون شعري يقول باللغة الواحدة، حين يصل إليها من المكان القصي، القلب الناطق بالفصحى لأنها اللغة الأم، قبل أن تلد بنتها العامية، يقول:
“بلل الماء
أسحب أنوار المدينة في فمك
عندما يفرح الحزن
يا أول الحبر
دم الشهيد
وآخر السحب
زهرة الزعفران
كم أحب هذا الليل النتن
عندما أشم ألوان الفراشات”.
بعدما يكرر الشاعر لفظة “انتهى” في سمفونية موسيقية تضع نهاية لامتداد العبارة الشعرية، نراه في المقطع الأخير من القصيدة البيان، قصيدة “نهاية السديم” ذاتها، يسحب رأسه كطفل من فوهة الأبدية لا من فوهة الرحم، كأن الفضاء سرد الراوي في أذن الأرض، امتداد الحكاية على مدى اتساع الموروث الشعبي ذاته، بكل ما فيه من أساطير وحكايات جن وبحارة يجرحون السماء لتمطر دمعتين شوقاً لأحبتهم خلف الأفق، يقول:
“أجذب السماء لصدري
لأخرج رأسي
من فوهة الأبدية
بالنظر إلى الأسفل
نعم
إنها نهاية السديم
ابتدى”.
من هنا تكون بداية الكتاب البيان، في الثقافة الشعبية المتغيرة، الحاملة بذور الانتقال إلى مساحات أوسع وفضاءات أكبر، والتي تحاول التحرر من بيئتها وموروثها الجمعي غير المتصالح مع الذات الشاعرة، في سبيل الإبقاء على ذات واحدة بوجهين، كما الثقافة الشعبية والقراءة فيها. ومن هنا يجوب الدوسري عوالم الانتماء للقبيلة بكل الفخر وفهو يتشبه بعمرو بن كلثوم وقصيدته في الفخر، والتي ذهبت مضرباً للأمثال في أخلاق الرجال، وهول الفعال إذا تعرض للقبيلة أحد بذم أو سوء، فالشاعر ابن القبيلة يفخر بنسبه، ويقف على “المنبر” منادياً في قصيدته “الدواسر”:
“يا قاري حروفي ويا طيب الفال
أربط حزام الدهشة بكف تحليل
شعري نوى يمدح غزيرين الأفعال
الوافيين الشامخين الحلاحيل
وصبيهم ينطح ثلاثين رجال
وقت اللقا له ضربةٍ تسقط الخيل”.
ويتطرق الشاعر إلى مواضيع أخرى تقع أصلاً في أدب النسيب والغزل في المطلق والاعتذار من الحبيب والتلوع في حضوره كما في فقده، كما في قصائده “طال انتظاري”، “قلت أحبه”، “أحبك”، “معزوفة ألحان”، “ذكرى الجرح”، “بنساك”، “دمع الكواكب” وغيرها، إذ يسير على خطى عمر ابن أبي ربيعة، وقيس بن الملوّح، ولا يقع في التقليد والنمطية، بل يحافظ على الانفعال الشعوري الذي يميز قصائد الشعر الشعبي الحديثة المتلائمة مع العصر ومفاهيمه ومفرداته.
http://www.alkhaleej.co.ae/portal/e0...533932f45.aspx[/align]
سامح كعوش
أشعاره تفصح عن مرحلة جديدة للشعر الشعبي
خالد الدوسري يحلق في آفاق أرحب
غلاف المجموعة
إن للقراءة في الثقافة الشعبية وجهين، الأول يمثل الماضي بينما يرتبط الثاني بالمستقبل، والأول شفوي بمجمله يعتمد العامية لغةً والدلالات المحلية للألفاظ حقلاً مفهومياً، بينما يقول الثاني بلغة المكان مكتوباً على الورق بين القصيدة النبطية والشعبية المبسطة اللفظ والمفردة.
والوجه الأول ارتجالي أما الوجه الثاني فجمالي متقن الصنعة، والأول موضوع حكاية ورواية وجمع استرجاعي يحتمل الكثير من الخطأ لبعد المسافة الزمنية وطول المدة وغياب الأثر، بينما يرسخ الثاني في الذاكرة القريبة الحاضرة، بل ويتعداها في كثير من الأحيان إلى المستقبل ليستشرف ما يأتي من تجارب وكتابات عن المكان الإماراتي وإنسانه.
تكون القراءة في الثقافة والشعر الشعبي المختزن في الذاكرة الشعبية “الماضوية” أحياناً استعراضاً لأدوات القارئ الباحث المتمكن من نقد الشعر والبحث فيه بأدوات تفكيكية وبنيوية وجمالية لا تتفق في الغالب مع أدنى متطلبات البحث في الأدب المحلي الإماراتي الشعبي الذي يحتفظ بخصوصيته المكانية والزمانية في حيز الجغرافيا الضيقة خارج المنجز الشعري العربي الفصيح، أو العالمي المعروف، وتكون في كثير من الأحيان إرضاءً لواجب مهني ضيق الإمكانات والأفق، يقوم به بعض الباحثين في الموروث الشعبي كما يحلو لهم أن يكتبوا قصيدة لا تنتمي لهذا الموروث، فيعودون إليه كي يتعلموا منه ويلصقوا بأنفسهم عبره صفات البحث في الشعر، وبالتالي أحقية القول الشعري نفسه.
وتكون القراءة أحياناً كتابةً على الكتابة نفسها، وبينهما وحدة الشعر والشعور وسحر الحضور للفنية المتمكنة من أدواتها، وفي ذلك يكمن الإبداع وتتضح الرؤى الشعرية الجمالية في التكامل والاكتمال. وتكون القراءة كذلك موقف بحث شعري وإنساني في الطلل الدارس والذكرى الغائرة في الذاكرة، فلا هي تفي الباحث حق بحثه عبر البوح عما تسرّه وتخفيه ولا تقوله، ولا يفيها الباحث حقها في امتلاكه أدواتها الصعبة المختلفة تماماً عن أدوات النقد المعتادة ومفاهيم مدارسه التقليدية، وفي الحالين يلتقيان عند “شيء ما”، خفيّ يكاد لا يظهر بملامحه الواضحة، وإن ظهرت إشاراته في ما تبقى في المكان من أثر وفي ذاكرة الناس من أطياف ومحكيات شعبية موروثة.
وتكون الكتابة في الشعر الشعبي في الإمارات على الحال ذاته، إذ إنها تحتفي بالجديد الغريب المكتوب بشكل حداثي لا يقترب من موروثه إلا في القيمة والتقدير للمضمون القيمي نفسه، أما في الشكل والمعنى مفردةً ولغةً وعلاقات بلاغة وبيان ومجاز ودلالاتٍ فهي تقترب بل تعيش في حداثتها الخاصة، بنت المكان، وتستعير كل إمكانات العلوم والفلسفة والحياة الجديدة بكل قيمها وملحقاتها.
والشاعر الإماراتي خالد الدوسري يكتب كلّ هذا، ويعيش المكان بواقع مغاير أجمل، فهو لا يستعمل المفردات ذاتها، ولا يقرأ في الكتاب الذي قرأه الشعراء الشعبيون نفسه، فجاءت كتابته بلغة مختلفة ومخالفة أحياناً، تنقل المفردة الشعرية الشعبية في الإمارات إلى آفاق رحبة غريبة، بل وغرائبية.
هذا الشاعر يقف في مجموعته الشعرية الجديدة “نهاية السديم” أعلى “منبر” الشعر الشعبي على الطريقة التقليدية في نمطية التعبير عن “أنا” الجماعة، بادئاً بالقول في الشعور الجمعي للشعب وعلاقته بالرمز القائد، واستعادته مسيرة هذا الرمز ليدخله في الذاكرة الشعبية كمحكي ومكتوب غائب، يحضر بالكلمة ويُستنطق بالشعر، وتُروى سيرته على مسامع الدهر كأنه الأسطورة الحية مداه، إذ يُحضر الشاعر خالد الدوسري الشعر الشعبي إلى موقع الاحتفالية الكبرى الأقرب إلى القلب في مصابه في رحيل الأحبة الكبار، بذكرى الأب المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، يقول:
“في غيبتك شمس البلد ترفض شروق
وغاب القمر يا شيخ من حزن ناسك
صحرا قفر تضمى وتضمى بها النوق
جناتٍ تحوّل بنظرة قياسك
زايد كتبت اسمك على الليل ببروق
بين الجدي وسهيل لا شفت راسك
مكسور بيت الشعر لو فيك مطروق
كل القوافي تنحني لجل باسك”.
الحزن
هنا، إعلان للشاعر يعبر من خلاله ببراعة عن رحيل قائد ووالد كبير، كالمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وهنا إعلانه الصفات العظيمة لهذا الإنسان الكبير في حضوره، والأكبر والأبعد أثراً وحضوراً في غيابه، فشمس البلد ترفض الشروق ويغيب القمر، في علاقة مجازية تجمع دلالات الغياب والرفض للشروق، بدلالات حزن الناس لا حزن الأشياء نفسها، وفي ذلك “التدوير” المنطقي لسببية الحزن وجدلية الارتقاء به من الكائن الإنساني إلى حزن الحجر والقمر والشمس.
وتكمن استحالة الشعر عن وصف حالة الفقد، يتمثلها الشاعر الدوسري ببلاغة مستقبلية ترى في سباق الشوق إلى الراحل ببعد نظر إلى المستقبل لترى فيه أثراً باقياً أبداً، وإرثاً عظيماً خالداً، يحوّل الصحارى المقفرة الى جناتٍ خضراء وغابات نخيل وخير وجناتٍ غنّاء، كأن الشعر عن زايد يتلوّن بالأخضر الذي كان يحبه، وعاش حياته راعياً له ومحافظاً عليه، لينكتب اسمه في سجل الخالدين، بالضياء الساطع على جبين الليل، وليصل الشاعر في حقيقة أمره إلى غاية العجز عن الكلام في حضرة الفقد الأكبر، والحضور الأكبر للراحل، وبين الموقفين يقف خالد الدوسري صادحاً بقول الشعر أن “مكسور بيت الشعر لو فيك مطروق/ كلّ القوافي تنحني لجل باسك”.
وتعبّر قصائد “شمس الأرض” و”زلزال الفضا” عن الموقف الإنساني ذاته لرحيل الأب والوالد المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، زايد الخير، فيكتب الشاعر الدوسري في الأولى ظلاماً خيّم على الكون وأطاح بشمس سمائه فاهتزت الأرض لهوله، يقول:
“حسبي الله حسبي الله يوم طاحت شمس يومي
هزت الأرض وتوارى كلِّ نورٍ عن مكاني
وعمّت الظلما الشوارع وابتدى ليل الهمومي
وذبلت ورود الحدايق وانطفا نور المباني
وطاحت دموع اليتيم وشقت العذرا الهدومي
والبلد تلطم خدودٍ داسها ذرب اليماني”.
ويرثي الشاعر الفقيد، كأنه يكتب في الراحل ذاكرة جمعية لا يمكن لها أن تغيب أو تخفي قولها، في إزاحة للماضوية واستبدالها بمستقبلية تستشرف غداً كأنه الآن، وهو في ذلك تأكيد لمقولة إن الثقافة الشعبية تكتب الآن شكلها الجديد، وتنزاح عن لغتها القديمة حتى في الموضوعات الشعرية ذات الصبغة الكلاسيكية النمطية كالمديح والهجاء والرثاء والوصف والحنين، ففي قصيدة “زلزال الفضا” يكتب الدوسري مفردات الثبات “العرش” و”النظم” لينتقل بقارئه إلى حالة التحوّل والتلاشي في مفردات “هزيت”، “يتكسر زجاج السماوات”، و”يتلاشى غبار المجرات”، مشيراً إلى القصيدة كزلزال يهز شعور كثير من الشعراء الشعبيين يهجرون حالات النمط والمحاكاة لمن تقدّم عليهم من شعراء، ولكن قلةً منهم يكتبون ما يكتبه خالد الدوسري من علاقات الربط الشعري بلغة حداثة تستمد من عصرها كلّ ما فيه، فتحكي الرثاء بالمديح، مقرونين بمفردات “القطب”، “شعاع”، “كوكب”، “محيط”، “جينات” كما في قوله:
“لو يشتعل جودك تجف المحيطات
كم دمع محتاج مسحته بكمّك
من كثر طيبك طال عشقك جمادات
ينبت لكوكب الأرض صدر ويضمك
وأنت الشهامة والكرم فيك جينات
ما هي غريبة، طبع “زايد” بدمّك”.
التحول
عن هذا التحول في الكتابة الشعبية وثقافتها في الإمارات، يختصر الدوسري القول، ويكتب “النهاية” التي يبدأ بها الشعر المغاير في الإمارات، وبخاصة في مساحة تعبير شعرائها الشعبيين في الحكاية والمقولة، التي تكتب نهاية السديم، بلغة هذيانية منفعلة، يقول الشاعر في قصيدته “نهاية السديم”:
“انتهى
على ما اشتهى
سحري على عرش الشعر ارتقى
ملل
شعر يطفو على سطح البلل
ما دام المحيط صدري
والسما عيني”.
هي لغة التحوّل الحاسم، كما هو التغير الحاصل في المكان الأقوى من الذاكرة، موسوماً بأشكال وجوه جديدة، وملامح حياة أخرى جديدة هي أيضاً، فلا لغة تستطيع أن تقارب هذه الملامح غير لغة “دوسرية” تبتكر صوراً جديدة غريبة كل الغرابة، ومتمكنةً كلّ التمكّن والاستطاعة، رغم قصر عمرها الافتراضي في التجربة والشعر، فهي تستعمل مفردات وعبارات من مثل العربات الذهبية التي تمر من فوق الأنا في القصيدة، ويعبر تحتها قوس قزح، أو كأن يرتمي فوق صدر الشعر السحاب الطري على شفا جرف الحياة، حينها يصرخ الشاعر “يدٌ تمتد نحوي/ يتشبث بها موتي/ وتهوي الريح بالطير الخاطف/ في مكان سحيق”.
وهي لغةٌ لا تقرر شاعرية الدوسري دون سواه فهي لغة مفتوحة على الكل تنتج حقولها المعجمية الخاصة بها، تقول في الأصدقاء ما قاله الأصدقاء في الشاعر، “كيف، كيف/ في الشتاء والصيف/ الأوغاد يأكلون أجساد الأجداد/ فليقتلونا بنا/ يا رفاق الشقاق والإيمان/ رغبتي طفل أعمى/ يتحسس وجه أمه/ تراب الحب/ بلا ملامح/ نازح”، وهي كتابةٌ ناطقة باللسان الكلي التعبير، عن حاجات الحياة نفسها، في المكان المختلف العمران، وفي جنون شعري يقول باللغة الواحدة، حين يصل إليها من المكان القصي، القلب الناطق بالفصحى لأنها اللغة الأم، قبل أن تلد بنتها العامية، يقول:
“بلل الماء
أسحب أنوار المدينة في فمك
عندما يفرح الحزن
يا أول الحبر
دم الشهيد
وآخر السحب
زهرة الزعفران
كم أحب هذا الليل النتن
عندما أشم ألوان الفراشات”.
بعدما يكرر الشاعر لفظة “انتهى” في سمفونية موسيقية تضع نهاية لامتداد العبارة الشعرية، نراه في المقطع الأخير من القصيدة البيان، قصيدة “نهاية السديم” ذاتها، يسحب رأسه كطفل من فوهة الأبدية لا من فوهة الرحم، كأن الفضاء سرد الراوي في أذن الأرض، امتداد الحكاية على مدى اتساع الموروث الشعبي ذاته، بكل ما فيه من أساطير وحكايات جن وبحارة يجرحون السماء لتمطر دمعتين شوقاً لأحبتهم خلف الأفق، يقول:
“أجذب السماء لصدري
لأخرج رأسي
من فوهة الأبدية
بالنظر إلى الأسفل
نعم
إنها نهاية السديم
ابتدى”.
من هنا تكون بداية الكتاب البيان، في الثقافة الشعبية المتغيرة، الحاملة بذور الانتقال إلى مساحات أوسع وفضاءات أكبر، والتي تحاول التحرر من بيئتها وموروثها الجمعي غير المتصالح مع الذات الشاعرة، في سبيل الإبقاء على ذات واحدة بوجهين، كما الثقافة الشعبية والقراءة فيها. ومن هنا يجوب الدوسري عوالم الانتماء للقبيلة بكل الفخر وفهو يتشبه بعمرو بن كلثوم وقصيدته في الفخر، والتي ذهبت مضرباً للأمثال في أخلاق الرجال، وهول الفعال إذا تعرض للقبيلة أحد بذم أو سوء، فالشاعر ابن القبيلة يفخر بنسبه، ويقف على “المنبر” منادياً في قصيدته “الدواسر”:
“يا قاري حروفي ويا طيب الفال
أربط حزام الدهشة بكف تحليل
شعري نوى يمدح غزيرين الأفعال
الوافيين الشامخين الحلاحيل
وصبيهم ينطح ثلاثين رجال
وقت اللقا له ضربةٍ تسقط الخيل”.
ويتطرق الشاعر إلى مواضيع أخرى تقع أصلاً في أدب النسيب والغزل في المطلق والاعتذار من الحبيب والتلوع في حضوره كما في فقده، كما في قصائده “طال انتظاري”، “قلت أحبه”، “أحبك”، “معزوفة ألحان”، “ذكرى الجرح”، “بنساك”، “دمع الكواكب” وغيرها، إذ يسير على خطى عمر ابن أبي ربيعة، وقيس بن الملوّح، ولا يقع في التقليد والنمطية، بل يحافظ على الانفعال الشعوري الذي يميز قصائد الشعر الشعبي الحديثة المتلائمة مع العصر ومفاهيمه ومفرداته.
http://www.alkhaleej.co.ae/portal/e0...533932f45.aspx[/align]
تعليق