قــصـائـد خــالــدة !!
عندما نتحدث عن ميزان الخلاوي الشعري العظيم الذي أبتكره ذلك البدوي بفطنته وبصيرته المتوقدة عندما قال :
وشِـعـر يـَعيـش وصاحـبـه حـَيًّ أو فــني
فـلا مـات مـن أنـشا مـن الـقيـل صـايبـه
لا شك بأننا سوف نخرج بنتيجة مؤداها بأن هناك شعراً يبقى نابضاً متألقاً متجددً رغم موت صاحبه وانقطاع وجوده المادي عن عالمنا الدنيوي.. ولعلنا في هذه العجالة اليوم نورد بعض الأمثلة والنماذج الشعرية الخالدة والرائعة التي خلدت أصحابها في سماء الجمال والإبداع الإنساني التي لا يخلوا منها أي إثر أدبي ولا مخطوطة شعرية احتضنت الجمال عبر عشرات السنين ولا زالت أصداء هذه القصائد والمقطوعات الشعرية تتردد في كل مكان ولم تخلوا منها ظهور المطايا يوماً.. وفي تصوري أنه لا يمكن لأي شاعر أو دارس أو حتى متذوق للشعر أن ينطلق في سماء وأفق هذا العالم الرحب والفسيح دون أن يكون له نصيب الغوص في بحر هذه الدرر الغُر والتقاط ما يمكن التقاطه من هذه الجواهر والدرر النادرة والنفيسة .. ولعمري أن هذا ما أدركه الأوربيون منذ زمن بعيد وذلك في تعاملهم مع قصائد هوميروس وقصائد الـ "إلياذة والأوديسة " الشهيرتين التي تعتبر من مطولات الأدب الأوروبي ولا زالوا يعملون جاهدين للتنقيب عن كل ما يساهم في رفع لواء الحضارة الأوروبية عالياً سواء في مجال الأدب كبحثهم الدؤوب الذي لا ينقطع عن كل شاردة ووردة تخص هذا المجال مما جعلهم يحصلون حتى على مقطوعات شعرية لشعراء كبار لدينا ولا توجد أي نسخة لدينا نحن أبناء هذه الثقافة والمسئولون عنها مسئولية تامة وذلك مثل قصيدة طـرفة أبـن العبـد والتي تطرقت لهـا في الأسبوع المنصرم إذ أن أحـد المستشرقين ويـدعى " ماكس سلغسون " كان صاحب الفضل في نشر ديوان طرفة بن العبد مع شرح الشتنمري مُضيفاً إليه ما عثر عليه من شعره في سائر المخطوطات والمراجع وهذا ما جعلنا وبكل مصداقية نقف منبهرين أيضاً أمام تلك المتاحف والمعارض الزاخرة بتراث المسلمين بدأً بالمخطوطات الثقافية المتنوعة وانتهاء باللوحات الفنية والقطع الفنية التي خلفها المسلمين منذ نهضتهم الأولى ولقد اهتموا بها أكثر من أبناءها وخير دليل ومصداق على ذلك معارض ليون بفرنسا ومعارض برلين ولندن الشهيرة حتى أننا أصبحنا في أكثر دارستنا الحضارية والتاريخية نعتمد على مراجعهم وذلك للحديث عن تاريخنا وهذه وحدها كارثة لا بد من تجنيد كل ما نملك لتحجيمها والحد من خطورتها !!.. ولكن دعنا من كل هذا الشجن الذي لن ينتهي ما دام بناء قلب ينبض بالحب لهذا التراث وهذه الحضارة الشامخة ولنرجع لمحور موضوعنا الأساسي حول تلك الأبيات الخالدة والشهيرة التي كان لها كل الفضل في تخليد شعراءها في سماء الجمال والإبداع الإنساني.. ولأنه من الاستحالة ذكر الأبيات كاملة إذ أن بعضها يتجاوز الألف بيت كما في قصائد الخلاوي المطولة أرى أن ذكر بعض مطالع تلك القصائد أو أبياتها يفي بالغرض ومن ثم على المهتم أن يقف بنفسه على تلك الدرر والفرائد لينهل من معينها العذب الذي لا ينضب ويقف بنفسه على ذلك الإبداع والنتاج الإنساني الرائع ولعل أولى تلك القصائد التي خلدت اسم شاعرها تلك التي أطلق عليها النقاد والدارسين بـ" الغربـال" وأسماها الناس" دستور الرجولة "للشاعر الكبير بركات بن مبارك الشريف من إشراف مكة القلائل الذين اجتمعت فيهم الشجاعة والفروسية والحكم والأدب وتميزه برجاحة العقل وسعته وهي وصيته الخالدة لأبنه التي لا زال الناس يستشهدون بها حتى عصرنا الحاضر ولا زال كل بيت من أبياتها موضوع اجتماعي متكامل عن الأخلاق وتصريف الأموال وتربية الأولاد واختيار الرفيق وبعد النظر وغيرها الكثير .. يقول في مستهلها :
يـا مـرقـبً بـالصبـح نـطيـت راقـيـك
مـا وحـدٍ قـبـلي خــبرتـه تـــعـلاك
أما شاعرنا الثاني فهو أبو دباس والذي عرفه الناس من خلال قصيدة واحدة تناقلتها ألسن الرواة وحفظها الكثيرون هي التي يخاطب بها أبنه " دباس " أيضا حينما رحل عنه وغاب طويلاً وانقطعت أخباره والتي يقول في أبياتها الأولى منها :
يـا ونــةٍ ونـيـتـها مــن خــوا الـراس
مــن واهـجٍ بـالـكبـد مـثـل السـعـيرة
ونـين مـن رجـلـه غـدت تـقـل مـقـواس
يـون تـالـي الـليـل يشـكي الـجـبـيـرة
وهناك قصيدة الأمير الشاعر محمد بن أحمد السديري والذي يعتبر علامة مميزة في مسيرة الشعر النبطي ويعتبر مدرسة من مدارس الشعر بحد ذاته والذي كان للشعر على يديه نقله كبيرة وكما يقول الشاعر طلال السعيد ( بأنه من الشعراء الذين ربط القديم بالحديث وبه اتصل التراث واستمر ويرجع له الفضل بتعلق الكثير من الشباب بالشعر النبطي من خلال تعلقهم بشعره) وصدرت له العديد من المؤلفات ولعل من أشهر وأجمل قصائده التي ذاع صيتها وتناقلتها الركبان تلك القصيدة الخالدة التي نختار منها هذان البيتان :
يــا عـل قـصـرٍ مـا يـجـي لـه ظـلالـي
يـنـهـد مـن عــالي مـبـانـيـه لـلسـاس
لا صــار مــا هــو مـدهـلٍ لـلـرجـالي
ومـلجـا لـمنـهـو يشـكـي الضيـم والـبـاس
ولا ننسى قصيدة الشيخ نمر بن عدون الصخري الرثائية في زوجته " وضحا " في القصة المشهورة وذلك عندما ذهبت لحلب الناقة ولكن على غير عادتها ذلك اليوم كما يذكر الرواة وعندما لمح نمر وهو في طريقة للبيت خيالاً بين أرجل الناقة ظنه حائفاً يريد سرقتها فضربه برمحه و أرداه قتيلاً وإذا بالخيال " وضحا " وأن أختلف الرواة في مصداقية هذه الرواية وعن كيفية موتها إذ يذكر البعض بأنها ماتت بالطاعون..ولكن في النهاية خرج لنا ذلك الشيخ البدوي بقصيدة رثائية نادراً ما نجد لها نظيراً حتى في الشعر الفصيح وهذا ليس غلواً بقدر ما هوا واضح لكل من يتذوق الشعر بتجرد ومصداقية بعيداً عن الصراع المختلق من قبل البعض والذي أعمى قلوب الكثير عن هذا الأدب الجميل وما يحمله من روائع جديرة بالاهتمام والدراسة..يقول شاعرنا الجريح نمر بن عدوان في مستهل تلك الرائعة الحزينـة:
الـبـارحـه يــوم الـخـلايـق نـيــامـا
بـيـحـت مـن كـثـر الـبـكا كـل مكنون
ويذكر الباحثين أن أكثر قصائد ذلك الشاعر الكبير تلونت بذكر هذه "الوضحا"التي سلبت عقلة وكانت جذوة ومحرك لكل قصائده ..
وبما أن لشاعرنا الخلاوي الفضل الأكبر بعد الله سبحانه وتعالي في إثارة هذا الطرح فلا ننسى أن لشاعرنا العديد من المطولات المليئة بالحكمة والفكر وبعد النظر وكما نعرف بأنه عرف بفيلسوف الصحراء ويعد من أقدم شعراء النبط ولعل من أشهر ما كتب ذلك الفيلسوف والتي بقيت حتى الآن مثلاً يردده الصغير والكبير أبياته التي يقول فيها :
نــعـد الـليــالي والـلـيـالي تـعـدنـا
العـمر يــفــنـا والـلـيـالي بــزايـد
قـولـوا لـبـيـت الـفـقر لا يا مـن الغـنا
وبـيـت الـعنـا لا يـا مـن الـفقر عـايـد
وكل ما ذكر ما هوا إلا غيض من فيض لما يزخر به تاريخنا الحافل من روائع ودرر يصعب أن تجد نضيراً لها حتى في مكتبات أوروبا وذلك لأنها كانت تعبر بكل مصداقية عن مواقف وبطولات رجال الصحراء الذين صالوا وجالوا على ظهر البسيطة وعاشوا صراع الإنسان البدائي ضد الجوع والفقر والمرض والخوف وليعذرني القارئ العزيز إذ لم أذكر بعض الأسماء فهي كثيرة ويصعب حصرها في مثل هذه العجالة واعدكم بتناول كل تلك الأسماء حسب ما يقتضيه الوضع في المستقبل القريب !!!!
ولكم العذر أيها الأحبة على إطالتي .. ولكن ما ذا أصنع إذ كان مقالي يأبا إلا أن يزاحم أشعاركم الحب والعطاء ويتقاسم معكم مائدة الفكر وكلنا في الهم شرقُ.. وشكراً كل الشكر على كل من بحث عني في فضاء هذه الشبكة المترامية ..وسامح الله الظروف التي دائماً ما تقف بيني وبين أحبتي .. والشكر موصول لصديق بوحي الكاتب والشاعر المسكون بالفكر أبو عبد الله فلقد أخجلتني أيها الصديق كثيراً في طلبك لي عبر الشبكة والذي لم أقراه صدقني سوى متأخراً نظراً لظروف انشغالي وأنا متأكد بأن الأخوة المراقبين والمسئولين عن هذا المنتدى جزاهم الله إلف خير سيوفون بالغرض !!! وإلى طرحٍ جديد إنشاء بأذن الله !!
تعليق